إذ اختطفوه ، فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبّران أمرها ، وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أرموس واسم الآخر أسطيوس. فلما انطلقوا به إليهما ظن تمليخا أنه ينطلق به إلى دقيانوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه ، فجعل يلتفت يمينا وشمالا ، وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون والحيران ، فجعل تمليخا يبكي ثمّ رفع رأسه إلى السماء وإلى الله عزوجل ، ثمّ قال : اللهم إله السماء والأرض أفرغ عليّ اليوم صبرا وأولج معي روحا منك تؤيّدني به عند هذا الجبار. وجعل يبكي ويقول في نفسه : فرّق بيني وبين إخوتي ، يا ليتهم يعلمون ما لقيت وأين يذهب بي ، ولو أنهم يعلمون فيأتون فنقوم جميعا بين يدي هذا الجبار ، فإنا كنا تواثقنا [لنكونن معا] (١) لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئا ولا نعبد الطواغيت من دون الله [فـ] فرق بيني وبينهم فلن يروني ولن أراهم أبدا ، وقد كنا تواثقنا على ألّا نفترق في حياة ولا موت ، يا ليت شعري ما هو فاعل بي؟ أقاتلي أم لا؟
هذا ما حدث به تمليخا أصحابه عن نفسه حتى انتهي به إلى الرجلين الصالحين : أرموس وأسطيوس ، فلما رأى تمليخا أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء ، فأخذ أرموس وأسطيوس الورق ، فنظرا إليه وعجبا منه ثمّ قال أحدهما : أين الكنز الذي وجدت يا فتى؟ هذا الورق يشهد عليك أنك وجدت كنزا. فقال لهم تمليخا : ما وجدت كنزا ، ولكن هذا الورق ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها ، ولكن والله ما أدري ما شأني ، وما أدري ما أقول لكما. فقال أحدهما : فمن أنت؟ فقال له : أمّا ما أرى فكنت أرى أني من أهل القرية. قالوا له : فمن أبوك [ومن (٢)] يعرفك بها؟ فأنبأهم باسم أبيه فلم يجدوا أحدا يعرفه ، ولا أباه ، فقال له أحدهما : أنت رجل كذّاب لا تخبرنا بالحقّ. ولم يدر ما يقول لهم غير أنه نكس بصره إلى الأرض ، فقال بعض من حوله : هذا رجل مجنون. وقال بعضهم : ليس بمجنون ، ولكن يحمّق نفسه عمدا لينفلت منكم. فقال له أحدهما ، ونظر إليه نظرا شديدا : أتظن أنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال ، أبيك وضرب هذا الورق ونقشها أكثر من ثلاثمائة سنة ، وأنت غلام شاب تظن أنك تأفكنا وتسخر بنا ، ونحن شرط كما ترى ، وحولك سراة أهل المدينة وولاة أمرها ، وخزائن هذه البلدة بأيدينا ، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار؟ إنني لأظنني سآمر بك فتعذّب عذابا شديدا ثمّ أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدت.
فلمّا قال له ذلك ، قال تمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه ، فإن فعلتم صدّقتم ما عندي. قالوا له : سل ، ما نكتمك شيئا. فقال : ما فعل الملك دقيانوس؟ قالا له : ليس نعرف ملكا يسمى دقيانوس على وجه الأرض ، ولم يكن إلّا ملكا قد هلك منذ زمان ودهر طويل ،
__________________
(١) في المخطوط : معا لنكونن.
(٢) في المخطوط : فبيّن.