شيء ، وأسخّر لك النور والظّلمة فأجعلهما جندا من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك» [٩٧] (١).
فلمّا قيل له ذلك انطلق يؤمّ الأمم التي عند مغرب الشمس فلما بلغهم وجد جمعا وعددا لا يحصيهم إلّا الله عزوجل ، وقوّة وبأسا لا يطيقهم إلّا الله ، وألسنة مختلفة ، وأهواء متشتتة ، فلمّا رأى ذلك كابرهم بالظلمة ، فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها فأحاط بهم في كلّ مكان حتّى جمعتهم في مكان واحد ثمّ أخذ عليهم بالنّور فدعاهم إلى الله عزوجل وعبادته (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) ...
(وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) ، فعمد إلى الذين تولّوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت في أفواههم وآذانهم وأنوفهم وأجوافهم ، ودخلت في بيوتهم ودورهم ، وغشيهم من فوقهم ومن تحتهم ومن كلّ جانب فماجوا فيه وتحيّروا ، فلمّا أشفقوا أن يهلكوا فيها عجّوا إليه بصوت واحد ، فكشفها عنهم ، وأخذهم عنوة ، فدخلوا في دعوته ، فجنّد من أهل المغرب أمما عظيمة ، فجعلهم جندا واحدا.
ثمّ انطلق بهم يقودهم والظلمة تسوقهم وتحرسهم من خلفهم ، والنور أمامهم يقودهم ويدلّه ، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى وهو يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها هاويل ، وسخّر الله عزوجل له يده وقلبه وعقله ورأيه ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملا.
فانطلق يقود تلك الأمم وهي تتبعه ، فإذا انتهى إلى بحر أو مخاصة بنى سفنا من ألواح صغار أمثال البغال ، فنظمها في ساعة ثمّ حمل فيها جميع من معه من تلك الأمم والجنود ، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها ، ثمّ دفع إلى كل رجل منهم لوحا فلا يثقله حمله ، فلم يزل ذلك دأبه حتّى انتهى إلى هاويل فعمل فيه كفعله في ناسك. فلمّا خرج منها مضى على وجهه في ناحية الأرض اليمنى حتّى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجنّد منها جنودا كفعله في الأمتين اللتين قبلها.
ثمّ كرّ مقبلا حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى وهو يريد تاويل ـ وهي الأمة التي بحيال هاويل ، وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض كلّه ـ فلمّا بلغها عمل فيها وجنّد منها كعمله فيما قبلها.
فلمّا فرغ منها عطف منها إلى الأمم التي في وسط الأرض من الجنّ والإنس ويأجوج ومأجوج ، فلما كان في بعض الطريق ممّا يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمّة صالحة من الإنس : يا ذا القرنين إنّ بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله تعالى ليس فيهم مشابه الإنس ، وفيهم أشباه البهائم يأكلون العشب ويفترسون الدّواب والوحش كما يفترسها السّباع ، ويأكلون [حشرات] (٢) الأرض كلها من الحيات والبهائم والعقارب وكلّ ذي روح ممّا خلق الله ، فليس
__________________
(١) تفسير القرطبي : ١١ / ٥١ ، ودلائل النبوة : ٢١٨ بتفاوت واختلاف وزيادة هنا.
(٢) من عرائس المجالس ، وفي المخطوط : فسدة.