قوله (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ) فيه إضمار واختصار ، يعني فاستجاب دعاءه فقال : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) ولد ذكر (اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) قال قتادة والكلبي : لم يسمّ أحد قبله يحيى ، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس ، وقال سعيد بن جبير وعطاء : لم نجعل له شبيها ، ومثله دليله قوله تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (١) أي مثلا وعدلا ، وهي رواية مجاهد عن ابن عباس ، وتأويل هذا القول أنّه لم يكن له مثل لأنّه لم يهمّ بمعصيته قط وقيل : لم يكن له مثل في أمر النساء لأنه كان (سَيِّداً وَحَصُوراً) وقال علي بن أبي طالب عن ابن عباس : لم تلد العواقر مثله ولدا ، وقيل : إن الله تعالى اشترط القبل لأنه جل ذكره أراد أن يخلق بعده من هو أفضل منه وهو محمّد عليهالسلام ، وقيل : إنّ الله تعالى لم يرد بهذا القول جميع الفضائل كلّها ليحيى ، وقيل : إنما أراد في بعضها لأن الخليل والكم عليهماالسلام كانا قبله وكانا أفضل منه.
(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي وامرأتي عاقر كقوله (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) (٢) أي من هو في المهد صبيّ (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أي يبسا ، قال قتادة : نحول العظم يقال : ملك عات إذا كان قاسي القلب غير ليّن ، وقال أبو عبيد : هو كل مبالغ في شر أو كفر فقد عتا وعسا ، وقرأ أبيّ وابن عباس عسيّا ، وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي (عِتِيًّا) بكسر العين ومثله (جِثِيًّا) و (صِلِيًّا) وبكيّا والباقون بالضم فيهما وهما لغتان.
(قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ) ، من قبل يحيى ، (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) على حمل امرأتي (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) أي صحيحا سليما من غير ما بأس ولا خرس ، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلّون إذ خرج عليهم زكريّا متغيرا لونه فأنكروه فقالوا له : ما لك يا زكريّا؟ (فَأَوْحى) أي أومى (إِلَيْهِمْ) ، ويقال : كتب في الأرض (أَنْ سَبِّحُوا) وصلّوا لله عزوجل (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) والسبحة الصلاة.
قوله (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) بجدّ (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ) يعني الفهم (صَبِيًّا) يعني في حال صباه ، وقال معمّر : جاء صبيان إلى يحيى بن زكريّا فقالوا : اخرج بنا نلعب ، فقال : ما للّعب خلقت ، فأنزل الله عزوجل (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) رحمة من عندنا ، قال الحطيئة لعمر بن الخطّاب :
تحنّن علىّ هداك المليك |
|
فإن لكلّ مقام مقالا (٣) |
__________________
(١) سورة مريم : ٦٥.
(٢) سورة مريم : ٢٩.
(٣) لسان العرب : ١١ / ٥٧٣.