فأما الكلام المسموع من الشجرة فاعلم أنّ مذهب أهل الحق أنّ الله سبحانه وتعالى مستغن عن الحدّ والمكان والجهة والزمان لأنّ ذلك كلّه من أمارات الحدث ، وهي خلقه وملكه وهو سبحانه أجلّ وأعظم من أن يوصف بالجهات ، أو تحدّه الصفات ، أو تصحبه الأوقات ، أو تحويه الأماكن والأقطار.
ولمّا كان كذلك استحال أن توصف صفات ذاته بأنّها متنقّلة من مكان أو حالّة في مكان ، وإذا ثبت هذا لم يجز أن يوصف كلامه بأنّه يحلّ موضعا أو ينزل مكانا ، كما لا يوصف بأنّه جوهر ولا عرض ولا حروف ولا صوت ، بل هو صفة يوصف بها الباري عزوجل فينتفى عنه بها آفات الخرس والبكم وما لا يليق به.
فأمّا الأفهام والأسماع فيجوز أن يكون في موضع دون موضع ومن مكان دون مكان ومن حيث لم تقع إحاطة واستغراق بالوقت على كنه صفاته ، قال الله سبحانه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١).
(يا مُوسى إِنَّهُ) الهاء عماد وليست بكناية (أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) تتحرّك (كَأَنَّها جَانٌ) وهي الحيّة الخفيفة الصغيرة الجسم ، وقال الكلبي : لا صغيرة ولا كبيرة.
فإن قيل : كيف قال في موضع (كَأَنَّها جَانٌ) وفي موضع آخر (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ) (٢) والموصوف واحد؟
قلنا : فيه وجهان :
أحدهما : أنّها في أوّل أمرها جانّ وفي آخر الأمر ثعبان ، وذلك أنّها كانت تصير حية على قدر العصا ثم لا تزال تنتفخ وتربو حتى تصير كالثعبان العظيم.
والآخر : أنّها في سرعة الجانّ وخفّته وفي صورة الثعبان وقوّته.
فلمّا رآها موسى عليهالسلام (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) ولم يرجع ، قال قتادة : ولم يلتفت.
فقال الله سبحانه (يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) فعمل بغير ما أمر (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً) قراءة العامة بضم الحاء وجزم السين ، وقرأ الأعمش بفتح الحاء والسين (بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ).
__________________
(١) سورة الشورى : ١١.
(٢) سورة الأعراف : ١٠٧.