فلمّا رأى أبناء ربيعة ما لقي تحرّكت له رحمهما ، فدعوا غلاما لهما نصرانيا ، يقال له : عداس. فقالا له : خذ قطفا من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ، ثمّ اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه ، ففعل عداس ثمّ أقبل به حتّى وضعه بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلمّا وضع رسول الله يده ، قال : «بسم الله».
ثمّ أكل ، فنظر عداس إلى وجهه ، ثمّ قال : والله إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة. قال له رسول الله : «ومن أي أهل البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟». قال : أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى.
فقال له رسول الله : «من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى». قال له : وما يدريك ما يونس بن متّى؟! قال له رسول الله : «ذاك أخي ، كان نبيّا وأنا نبيّ». فأكبّ عداس على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقبّل رأسه ، ويديه ، ورجليه [١٢] (١).
قال : فيقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه ، أما غلامك فقد أفسده عليك. فلمّا جاءهم عداس ، قالا له : ويلك يا عداس ما لك تقبّل رأس هذا الرجل ، ويديه ، ورجليه؟! قال : يا سيّدي ما في الأرض خير من هذا ، لقد خبّرني بأمر ما يعلمه إلّا نبي. فقال : ويحك يا عداس لا يصرفنّك عن دينك ، فإنّ دينك خير من دينه.
ثمّ إنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم انصرف من الطائف راجعا إلى مكّة حتّى يئس من خير ثقيف ، حتّى إذا كان بنخلة ، قام من جوف الليل يصلّي ، فمرّ به نفر من جنّ أهل نصيبين اليمن ، وكان سبب ذلك أنّ الجنّ كانت تسترق السمع ، فلمّا حرست السماء ورجموا بالشهب. قال إبليس : إنّ هذا الذي حدث في السماء لشيء في الأرض ، فبعث سراياه لتعرف الخبر ، فكان أوّل بعث بعث ركب من أهل نصيبين وهم أشراف الجنّ وساداتهم ، فبعثهم إلى تهامة ، فاندفعوا حتّى بلغوا وادي نخلة ، فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه يصلّي صلاة الغداة ، ببطن نخلة ويتلو القرآن ، فاستمعوا إليه ، و (قالُوا : أَنْصِتُوا). هذا معنى قول سعيد بن جبير وجماعة من أئمّة الخبر ، ورواية العوفي عن ابن عباس ، وقال آخرون : بل أمر رسول الله أن ينذر الجنّ ويدعوهم إلى الله تعالى ، ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف الله إليه (نَفَراً مِنَ الْجِنِ) من نينوى وجمعهم له ، فقال رسول الله : «إنّي أمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة فأيّكم يتبعني؟» فأطرقوا ثمّ استتبعهم فأطرقوا ، ثمّ استتبعهم الثالثة ، فاتبعه عبد الله بن مسعود ، قال عبد الله : ولم يحضر معه أحد غيري ، فانطلقنا حتّى إذا كنّا بأعلى مكّة دخل نبيّ الله صلىاللهعليهوسلم شعبا يقال له : شعب الحجون وخط إليّ خطّا ، ثمّ أمرني أن أجلس فيه.
قال : «لا تخرج منه حتّى أعود إليك». ثمّ انطلق حتّى قام وافتتح القرآن فجعلت أرى أمثال
__________________
(١) البداية والنهاية : ٣ / ١٦٧.