سائر أفعاله في غاية من الرزانة.
وهل فرق بين العبادة وغيرها إلّا بقصد القربة والإخلاص؟ وإن أردت مزيد إيضاح لما قلناه ، فانظر إلى نفسك إذا كنت جالسا في مجلسك ودخل عليك رجل عزيز حقيق للقيام له والتواضع ، ففي حال دخوله قمت له إجلالا وإعظاما ـ كما هو رسم العادة ـ فهل يجب عليك أن تتصوّر في بالك أقوم تواضعا لفلان ولاستحقاقه ذلك قربة إليه ، أو إلى الله تعالى ، وإلّا لكان قيامك له من غير هذا التصوّر خاليا من النيّة ، فلا يسمّى تواضعا ، ولا يترتّب عليه ثواب ولا مدح ، أم يكفي مجرّد قيامك خاليا من هذا التصوّر ، وأنّه واقع بنيّة وقصد على جهة الإجلال والإعظام الموجب للمدح والثواب؟
ومن المقطوع به أنّه لو تكلّفت تخيّل ذلك بخيالك أو ذكرته بلسانك ، لكنت مسخرة لكلّ سامع ومضحكة في المجامع.
وهذا أيضا شأن النيّة في العبادات ، فإنّ المكلّف إذا دخل عليه وقت الظهر ـ مثلا ـ وهو عالم بوجوب ذلك الفرض سابقا وعالم بكيفيّته وكمّيته ، وكان الغرض الحاصل له على الإتيان به الامتثال لأمر الله تعالى ، ثمّ قام من مكانه وسارع إلى الوضوء ، ثمّ توجّه إلى المسجد ووقف في مصلّاه مستقبلا وأذّن وأقام ، ثمّ كبّر ، واستمرّ في صلاته ، فإنّ صلاته صحيحة شرعيّة مشتملة على النيّة والقربة.
فظهر ممّا ذكرناه أنّ النيّة المعتبرة مطلقا ليست منحصرة في الصورة المخطرة بالبال ، بل إنّما هي عبارة عن انبعاث النفس والميل ، إذا لم يكن حاصلا لها قبل فلا يمكنها اختراعه واكتسابه بمجرّد النطق باللسان أو تصوير تلك المعاني بالجنان.
مثلا إذا غلب على قلب المدرّس أو المصلّي حبّ الشهرة وحسن الصيت واستمالة القلوب إليه ، لكونه صاحب فضيلة ، أو كونه ملازم العبادة ، وكان ذلك هو الحاصل له على تدريسه أو عبادته ، فإنّه لا يتمكّن من التدريس أو الصلاة بنيّة