وحضره أحد مماليكه المتميزين لديه بالخطة والأثرة مستعديا على جمال ذكر أنه باعه جملا معيبا أو صرف عليه جملا بعيب لم يكن فيه ، فقال السلطان له : ما عسى أن أصنع لك ، وللمسلمين قاض يحكم بينهم ، والحق الشرعي مبسوط للخاصة والعامة ، وأوامره ونواهيه ممتثلة ، وإنما أنا عبد الشرع وشحنته ، والشحنة عندهم صاحب الشرطة ، فالحق يقضي لك أو عليك. وهذا في العقد مقصد عمري. وهذه كلمات كفى بها لهذا السلطان فخرا ، والله يمتع ببقائه الإسلام والمسلمين بمنّه.
شهر جمادى الآخرة
عرفنا الله بركته
استهل هلاله ليلة الأحد التاسع من شهر شتنبر العجمي ونحن بدمشق ، حرسها الله ، على قدم الرحلة إلى عكة ، فتحها الله ، والتماس ركوب البحر مع تجار النصارى وفي مراكبهم المعدة لسفر الخريف المعروف عندهم بالصليبية ، عرفنا الله في ذلك معهود خيرته ، وتكفلنا بكلاءته وعصمته ، بعزته وقدرته ، إنه سبحانه الحنان المنان ، ولي الطول والإحسان ، لا رب غيره. وكان انفصالنا منها عشي يوم الخميس الخامس من الشهر المذكور ، وهو الثالث عشر من شهر شتنبر المذكور ، في قافلة كبيرة من التجار المسافرين بالسلع إلى عكة.
ومن أعجب ما يحدث به في الدنيا أن قوافل المسلمين تخرج إلى بلاد الإفرنج وسبيهم يدخل بلاد المسلمين. شاهدنا من ذلك عند خروجنا أمرا عجيبا. وذلك أن صلاح الدين عند منازلته حصن الكرك ، المتقدم الذكر في هذا التاريخ ، قصد إليه الإفرنج في جميعهم ، وقد تألبوا من كل أوب ، وراموا أن يسبقوه إلى موضع الماء ، ويقطعوا عنه الميرة من بلاد المسلمين. فصمد لهم وأقلع عن الحصن بجملته وسبقهم إلى موضع الماء. فحادوا عن طريقه وسلكوا طريقا وعرا ذهب فيه أكثر دوابهم ، وتوجهوا إلى حصن الكرك المذكور ، وقد سد عليهم بنيات الطرق القاصدة بلادهم ولم يبق لهم إلا طريق عن الحصن يأخذ على الصحراء ويبعد مداه عليهم بتحليق