لشتنبر ، مدينة عكة ، دمرها الله ، وحملنا إلى الديوان ، وهو خان معد لنزول القافلة ، وأمام بابه مصاطب مفروشة فيها كتاب الديوان من النصارى بمحابر الآبنوس المذهبة الحلى. وهم يكتبون بالعربية ويتكلمون بها ، ورئيسهم صاحب الديوان والضامن له يعرف بالصاحب ، لقب وقع عليه لمكانه من الخطة. وهم يعرفون به كل محتشم متعين عندهم من غير الجند. وكل ما يجبى عندهم راجع إلى الضمان ، وضمان هذا الديوان بمال عظيم. فأنزل التجار رحالهم به ونزلوا في أعلاه ، وطلب رحل من لا سلعة له لئلا يحتوي على سلعة مخبوءة فيه ، وأطلق سبيله فنزل حيث شاء. وكل ذلك برفق وتؤدة ، دون تعنيف ولا حمل. فنزلنا بها في بيت اكتريناه من نصرانية بإزاء البحر ، وسألنا الله تعالى حسن الخلاص وتيسير السلامة.
ذكر مدينة عكة
دمرها الله وأعادها
هي قاعدة مدن الإفرنج بالشام ، ومحط الجواري المنشآت في البحر كالأعلام ، مرفأ كل سفينة ، والمشبهة في عظمها بالقسطنطينة ، مجتمع السفن والرفاق ، وملتقى تجار المسلمين والنصارى من جميع الآفاق. سككها وشوارعها تغص بالزحام ، وتضيق فيها مواطئ الأقدام ، تستعر كفرا وطغيانا ، وتفور خنازير وصلبانا ، زفرة قذرة ، مملوؤة كلها رجسا وعذرة (١) انتزعها الإفرنج من أيدي المسلمين في العشر الأول من المئة السادسة ، فبكى لها الإسلام ملء جفونه ، وكانت أحد شجونه. فعادت مساجدها كنائس ، وصوامعها مضارب للنواقيس ، وطهر الله من مسجدها الجامع بقعة بقيت بأيدي المسلمين مسجدا صغيرا ، يجمع الغرباء منهم فيه لإقامة فريضة الصلاة. وعند محرابه قبر صالح النبي ، صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء ، فحرس الله هذه البقعة من رجس الكفرة ببركة هذا القبر المقدس.
وفي شرقي البلدة العين المعروفة بعين البقر ، وهي التي أخرج الله منها البقر لآدم ،
__________________
(١) العذرة (جمعها عذر) : قلفة الصبي.