الشرقية في هذين الفصلين انتظار وعد صادق ، فسبحان المبدع في حكمته ، المعجز في قدرته ، لا إله سواه.
وكنا طول هذه المدة التي أقمنا فيها على ظهر المركب نبيت في البر ، ونتفقد المركب في الأحيان. فلما كان سحر يوم الخميس العاشر لرجب المذكور ، والثامن عشر لأكتوبر ، أقلع المركب ، وكنا على عادتنا في البر بائتين. ولم يحسن النهار للروم بأهبة السفر ، فضيعنا الحزم ونسينا المثل المضروب في أعداد الماء والزاد ، وأن لا يفارق الإنسان رحله. فأصبحنا والمركب لا عين له ولا أثر ، فاكترينا للحين زورقا كبيرا له أربعة مجاذيف وأقلعنا نتبعه. وكانت مخاطرة عصم الله منها فأدركنا المركب مع العشي ، فحمدنا الله عزّ وجل على ما من به. وكان أول ذلك اليوم يوم شدتنا في هذا السفر الطويل ، وآخره والحمد لله يوم فرجنا ، ولله الحمد والشكر على كل حال.
اتصل جرينا والريح الموافقة تأخذ وتدع نحو خمسة أيام ، ثم هبت علينا الريح الغربية من مكمنها دافعة في وجه المركب ، فأخذ رئيسه ومدبره الرومي الجنوي ، وكان بصيرا بصنعته ، حاذقا في شغل الرياسة البحرية ، يراوغها تارة يمينا وتارة شمالا ، طمعا أن لا يرجع على عقبه ، والبحر في أثناء ذلك رهو ساكن. فلما كان نصف الليل ، أو قريب منه ، ليلة السبت التاسع عشر لرجب المذكور ، والسابع والعشرين لأكتوبر ، ترددت علينا الريح الغربية فقصفت قرية الصاري المعروف بالأردمون ، وألقت نصفها في البحر مع ما اتصل بها من الشراع ، وعصم الله من وقوعها في المركب ، لأنها كانت تشبه الصواري عظما وضخامة. فتبادر البحريون إليها ، وحط شراع الصاري الكبير ، وعطل المركب من جريه ، وصيح بالبحريين الملازمين للعشاري المرتبط بالمركب ، فقصدوا إلى نصف الخشبة الواقعة في البحر وأخرجوها مع الشراع المرتبط بها ، وحصلنا في أمر لا يعلمه إلا الله تعالى ، وشرعوا في رفع الشراع الكبير ، وأقاموا في الأردمون شراعا يعرف بالدلون ، وبتنا بليلة شهباء ، إلى أن وضح الصباح ، وقد منّ الله عزّ وجل بالسلامة.
وشرع البحريون في إصلاح قرية أخرى من خشبة كانت معدة عندهم ، والريح الغربية على أول لجاجها ، ونحن بين اليأس والرجاء نتردد مغلبين حسن الثقة بجميل