والديوان قد غص بالزحام. فوقع التفتيش لجميع الأسباب ، ما دق منها وما جل ، واختلط بعضها ببعض ، وأدخلت الأيدي إلى أوساطهم بحثا عما عسى أن يكون فيها. ثم استحلفوا بعد ذلك ، هل عندهم غير ما وجدوا لهم أم لا. وفي أثناء ذلك ذهب كثير من أسباب الناس لاختلاط الأيدي وتكاثر الزحام ، ثم أطلقوا بعد موقف من الذل والخزي عظيم ، نسأل الله أن يعظم الأجر بذلك. وهذه لا محالة من الأمور الملبّس فيها على السلطان الكبير المعروف بصلاح الدين ، ولو علم بذلك ـ على ما يؤثر عنه من العدل وإيثار الرفق ـ لأزال ذلك ، وكفى الله المؤمنين تلك الخطة الشاقة واستؤدوا الزكاة على أجمل الوجوه. وما لقينا ببلاد هذا الرجل ، ما يلم به قبيح لبعض الذكر ، سوى هذه الأحدوثة التي هي من نتائج عمال الدواوين.
ذكر بعض أخبار الإسكندرية وآثارها
فأول ذلك حسن وضع البلد واتساع مبانيه ، حتى إنا ما شاهدنا بلدا أوسع مسالك منه ولا أعلى مبنى ولا أعتق ولا أحفل منه ، وأسواقه في نهاية من الاحتفال أيضا. ومن العجب في وصفه أن بناءه تحت الأرض كبنائه فوقها وأعتق وأمتن ، لأن الماء من النيل يخترق جميع ديارها وأزقتها تحت الأرض ، فتتصل الآبار بعضها ببعض ويمد بعضها بعضا. وعاينا فيها أيضا ، من سواري الرخام وألواحه كثرة وعلوا واتساعا وحسنا ، ما لا يتخيل بالوهم ، حتى إنك تلفي في بعض الممرات بها سواري يغص الجو بها صعودا ، لا يدرى ما معناه ولا لم كان أصل وضعها. وذكر لنا أنه كان عليها في القديم مبان للفلاسفة خاصة ، ولأهل الرئاسة في ذلك الزمان ـ والله أعلم ـ ويشبه أن يكون ذلك للرصد.
ومن أعظم ما شاهدناه من عجائبها المنار الذي قد وضعه الله ، عز وجل ، على يدي من سخر لذلك آية للمتوسمين وهداية للمسافرين ، لولاه ما اهتدوا في البحر إلى بر الإسكندرية ، يظهر على أزيد من سبعين ميلا. ومبناه في غاية العتاقة والوثاقة طولا وعرضا ، يزاحم الجو سموا وارتفاعا ، يقصر عنه الوصف وينحسر دونه الطرف ،