الخبر عنه يضيق والمشاهدة له تتسع. ذرعنا أحد جوانبه الأربعة فألفينا فيه نيفا وخمسين باعا ، ويذكر أن في طوله أزيد من مائة وخمسين قامة. وأما داخله فمرأى هائل ، اتساع معارج ومداخل وكثرة مساكن ، حتى إن المتصرف فيها والوالج في مسالكها ربما ضلّ. وبالجملة لا يحصّلها القول ، والله لا يخليه من دعوة الإسلام ويبقيه. وفي أعلاه مسجد موصوف بالبركة يتبرك الناس بالصلاة فيه ، وطلعنا إليه يوم الخميس الخامس لذي الحجة المؤرخ ، وصلينا في المسجد المبارك المذكور. وشاهدنا من شأن مبناه عجبا لا يستوفيه وصف واصف.
مآثر صلاح الدين
من مناقب هذا البلد ومفاخره العائدة في الحقيقة إلى سلطانه : المدارس والمحارس الموضوعة فيه لأهل الطلب والتعبد ، يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكنا يأوي إليه ومدرّسا يعلمه الفن الذي يريد تعلمه وإجراء يقوم به في جميع أحواله. واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين ، حتى أمر بتعيين حمّامات يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك ، ونصب لهم مارستانا (١) لعلاج من مرض منهم ، ووكل بهم أطباء يتفقدون أحوالهم ، وتحت أيديهم خدام يأمرونهم بالنظر في مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء. وقد رتب أيضا فيه أقوام برسم الزيارة للمرضى الذين يتنزهون عن الوصول للمارستان المذكور من الغرباء خاصة ، وينهون إلى الأطباء أحوالهم ليتكفلوا بمعالجتهم.
ومن أشرف هذه المقاصد أيضا أن السلطان عين لأبناء السبيل من المغاربة خبزتين لكل إنسان في كل يوم بالغا ما بلغوا ، ونصب لتفريق ذلك كل يوم إنسانا أمينا من قبله. فقد ينتهي في اليوم ألفي خبزة أو أزيد ، بحسب القلة والكثرة ، وهكذا دائما. ولهذا كله أوقاف من قبله حاشا ما عينه من زكاة العين لذلك. وأكد على المتولين لذلك
__________________
(١) المارستان : معربة عن بيمارستان (الفارسية) وهي مؤلفة من كلمتين ومعناها : دار المرضى ، المستشفى.