متى نقصهم من الوظائف المرسومة شيء أن يرجعوا إلى صلب ماله. وأما أهل بلده ففي نهاية من الترفيه واتساع الأحوال ، لا يلزمهم وظيف البتة. ولا فائد للسلطان بهذا البلد سوى الأوقاف المحبسة المعينة من قبله لهذه الوجوه وجزية اليهود والنصارى وما يطرأ من زكاة العين خاصة ، وليس له منها سوى ثلاثة أثمانها وخمسة الأثمان مضافة للوجوه المذكورة.
وهذا السلطان الذي سن هذه السنن المحمودة ، ورسم هذه الرسوم الكريمة على عدمها في المدة البعيدة ، هو صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب ، وصل الله صلاحه وتوفيقه. ومن أعجب ما اتفق للغرباء ، أن بعض من يريد التقرب بالنصائح إلى السلطان ذكر أن أكثر هؤلاء يأخذون جراية الخبز ولا حاجة لهم بها ، رغبة في المعيشة ، لأنهم لا يصلون إلا بزاد يقلهم. فكاد يؤثر سعي هذا المتنصح.
فلما كان في أحد الأيام خرج السلطان المذكور على سبيل التطلع خارج بلده ، فتلقى منهم جماعة قد لفظتهم الصحراء المتصلة بطرابلس ، وهم قد ذهبت رسومهم عطشا وجوعا. فسألهم عن وجهتهم واستطلع ما لديهم. فأعلموه أنهم قاصدون بيت الله الحرام وأنهم ركبوا البر وكابدوا مشقة صحرائية. فقال : لو وصل هؤلاء وهم قد اعتسفوا هذه المجاهل التي اعتسفوها وكابدوا من الشقاء ما كابدوه وبيد كل واحد منهم زنته ذهبا وفضة لوجب أن يشاركوا ولا يقطعوا عن العادة التي أجريناها لهم ، فالعجب ممن يسعى على مثل هؤلاء ويروم التقرب إلينا بالسعي في قطع ما أوجبناه لله ، عز وجل ، خالصا لوجهه.
ومآثر هذا السلطان ومقاصده في العدل ومقاماته في الذّود عن حوزة الدين لا تحصى كثرة. ومن الغريب أيضا ، في أحوال هذه البلد ، تصرّف الناس فيه بالليل كتصرفهم بالنهار في جميع أحوالهم. وهو أكثر بلاد الله مساجد ، حتى إن تقدير الناس لها يطفّف. فمنهم المكثر والمقلل ، فالمكثر ينتهي في تقديره إلى اثني عشر ألف مسجد ، والمقلل ما دون ذلك لا ينضبط ، فمنهم من يقول ثمانية آلاف ومنهم من يقول غير ذلك. وبالجملة فهي كثيرة جدا تكون منها الأربعة والخمسة في موضع وربما كانت مركبة ، وكلها بأئمة مرتبين من قبل