فاحتفل في كرامتنا وبرنا وباح لنا بسره المكنون بعد مراقبة منه في مجلسه أزال لها كل من كان حوله ممن يتهمه من خدامه محافظة على نفسه. فسألنا عن مكة ، قدسها الله ، وعن مشاهدها المعظمة وعن مشاهد المدينة المقدسة ومشاهد الشام. فأخبرناه ، وهو يذوب شوقا وتحرقا ، واستهدى منا بعض ما استصحبناه من الطرف المباركة من مكة والمدينة قدسهما الله. ورغب في أن لا نبخل عليه بما أمكن من ذلك. وقال لنا : أنتم مدلون بإظهار الإسلام ، فائزون بما قصدتم له ، رابحون إن شاء الله في متجركم. ونحن كاتمون إيماننا ، خائفون على أنفسنا ، متمسكون بعبادة الله وأداء فرائضه سرا ، معتقلون في ملكة كافر بالله ، قد وضع في أعناقنا ربقة الرق ، فغايتنا التبرك بلقاء أمثالكم من الحجاج ، واستهداء أدعيتهم ، والاغتباط بما نتلقاه منهم من تحف تلك المشاهد المقدسة ، لنتخذها عدة للإيمان ، وذخيرة للأكفان. فتفطرت قلوبنا له إشفاقا ودعونا له بحسن الخاتمة ، وأتحفناه ببعض ما كان عندنا مما رغب فيه. وأبلغ في مجازاتنا ومكافأتنا واستكتمناه سائر إخوانه من الفتيان. ولهم في فعل الجميل أخبار مأثورة ، وفي افتكاك الأسرى صنائع عند الله مشكورة. وجميع خدمتهم على مثل أحوالهم. ومن عجيب شأن هؤلاء الفتيان أنهم يحضرون عند مولاهم فيحين وقت الصلاة فيخرجون أفذاذا من مجلسه فيقضون صلاتهم. وربما يكونون بموضع تلحقه عين ملكهم فيسترهم الله عزّ وجل ، فلا يزالون بأعمالهم ونياتهم وبنصائحهم الباطنة للمسلمين في جهاد دائم ، والله ينفعهم ويجعل خلاصهم بمنّه. ولهذا الملك بمدينة مسينة المذكورة دار صنعة البحر تحتوي من الأساطيل على ما لا يحصى عدد مراكبه ، وله بالمدينة مثل ذلك.
مغادرة مدينة مسينة
فكان نزولنا في أحد الفنادق ، وأقمنا بها تسعة أيام ، فلما كان ليلة الثلاثاء الثاني عشر للشهر المبارك المذكور ، والثامن عشر لدجنبر ، ركبنا في زورق متوجهين إلى المدينة المتقدم ذكرها ، وصرنا قريبا من الساحل بحيث نبصره رأي العين. وأرسل الله علينا ريحا شرقية رخاء طيبة زجت الزورق أهنأ تزجيه ، وسرنا نسرح اللحظ في عمائر وقرى متصلة وحصون ومعاقل في قنن الجبال مشرفة. وأبصرنا عن يمننا في البحر تسع