الحجاج بين أيدي هؤلاء المتناولين لها مواقف خزي ومهانة تذكرهم أيام المكوس. وهذا أمر يقع القطع على أن صلاح الدين لا يعرفه. ولو عرفه لأمر بقطعه ، كما أمر بقطع ما هو أعظم منه ، ولجاهد المتناول له ، فإن جهادهم من الواجبات لما يصدر عنهم من التعسف وعسير الإرهاق وسوء المعاملة مع غرباء انقطعوا إلى الله عزّ وجل ، وخرجوا مهاجرين إلى حرمه الأمين. ولو شاء الله لكانت عن الخطة مندوحة (١) في اقتضاء الزكاة على أجمل الوجوه من ذوي البضائع في التجارات ، مع مراعاة رأس كل حول الذي هو محل الزكاة ، وبتجنب اعتراض الغرباء المنقطعين ممن تجب الزكاة له لا عليه ، وكان يحافظ على جانب هذا السلطان العادل الذي قد شمل البلاد عدله وسار في الآفاق ذكره ، ولا يسعى فيما يسيء الذكر بمن قد حسن الله ذكره ، ويقبح المقالة في جانب من أجمل الله المقالة عنه.
ومن أشنع ما شاهدناه من ذلك خروج شرذمة من مردة أعوان الزكاة ، في أيديهم المسال (٢) الطوال ذوات الأنصبة ، فيصعدون إلى المراكب استكشافا لما فيها ، فلا يتركون عكما ولا غرارة (٣) إلا ويتخللونها بتلك المسال الملعونة مخافة أن يكون في تلك الغرارة أو العكم اللذين لا يحتويان سوى الزاد شيء غيّب عليه من بضاعة أو مال. وهذا أقبح ما يؤثر في الأحاديث الملعّنة ، وقد نهى الله عن التجسس ، فكيف عن الكشف لما يرجى ستر الصون دونه من حال لا يريد صاحبها أن يطلع عليها ، إما استحقارا أو استنفاسا دون بخل بواجب يلزمها ، والله الآخذ على أيدي هؤلاء الظلمة بيد هذا السلطان العادل وتوفيقه ، إن شاء الله.
معالم في الطريق إلى قوص
ومن المواضع التي اجتزنا عليها بعد أخميم المذكورة موضع يعرف بمنشأة السودان على الشط الغربي من النيل ، وهي قرية معمورة ، ويقال : إنها كانت في القديم مدينة كبيرة. وقد قام أمام هذه القرية ، بينها وبين النيل ، رصيف عال من الحجارة كأنه السور
__________________
(١) المندوحة : السعة والفسحة ، وهي هنا بمعنى التساهل والتيسير.
(٢) المسال : جمع مسلة ، وهي الإبرة الكبيرة لخياطة الأكياس والعدول.
(٣) العكم (بكسر العين) والغرارة : العدل والكيس الكبير من القنب أو الشعر أو الكتان.