بمرسى يعرف بأبحر ، وهو على بعض يوم من جدة ، وهو من أعجب المراسي وضعا ، وذلك أن خليجا من البحر يدخل البر والبر مطيف به من كلتا حافتيه فترسي الجلاب منه في قرارة مكنّة هادئة.
فلما كان سحر يوم الاثنين بعده أقلعنا منه على بركة الله تعالى بريح فاترة ، والله الميسر لا رب سواه. فلما جن الليل أرسينا على مقربة من جدة وهي بمرأى العين منا.وحالت الريح صبيحة يوم الثلاثاء بعده بيننا وبين دخول مرساها. ودخول هذه المراسي صعب المرام ، بسبب كثرة الشعاب والتفافها. وأبصرنا من صنعة هؤلاء الرؤساء والنواتية في التصرف بالجلبة أثناءها أمرا ضخما ، يدخلونها على مضايق ويصرّفونها خلالها تصريف الفارس للجواد الرطب العنان السلس القياد ، ويأتون في ذلك بعجب يضيق الوصف عنه.
النزول في جدة
وفي ظهر يوم الثلاثاء الرابع من شهر ربيع الآخر المذكور ، وهو السادس والعشرون من شهر يوليه ، كان نزولنا بجدة حامدين لله عز وجل وشاكرين على السلامة والنجاة من هول ما عايناه في تلك الثمانية الأيام طول مقامنا على البحر ، وكانت أهوالا شتى ، عصمنا الله منها بفضله وكرمه ، فمنها ما كان يطرأ من البحر واختلاف رياحه وكثرة شعابه المعترضة فيه. ومنها ما كان يطرأ من ضعف عدة المركب واختلالها واقتسامها المرة بعد المرة عند رفع الشراع ، حطه أو جذب مرساة من مراسيه. وربما سنحت الجلبة بأسفلها على شعب من تلك الشعاب أثناء تخللها ، فنسمع لها هدّا (١) يؤذن باليأس ، فكنا فيها نموت مرارا ونحيا مرارا. والحمد لله على ما من به من العصمة وتكفل به من الوقاية والكفاية حمدا يبلغ رضاه ويستهدي المزيد من نعماه ، بعزته وقدرته ، لا إله سواه.
__________________
(١) الهد : الهدم والهدير ، وهو هنا صوت الانجراف والتهشم على الشعاب المرجانية.