وكان نزولنا فيها بدار القائد علي ، وهو صاحب جدة من قبل أمير مكة المذكور ، في صرح من تلك الصروح الخوصية التي يبنونها في أعالي ديارهم ويخرجون منها إلى سطوح يبيتون فيها. وعند احتلالنا جدة المذكورة عاهدنا الله ، عز وجل ، سرورا بما أنعم الله به من السلامة ، ألا يكون انصرافنا على هذا البحر الملعون ، إلا إن طرأت ضرورة تحول بيننا وبين سواه من الطرق. والله ولي الخيرة في جميع ما يقضيه ويسنيه بعزته.
وجدة هذه قرية على ساحل البحر المذكور ، أكثر بيوتها أخصاص ، وفيها فنادق مبنية بالحجارة والطين. وفي أعلاها بيوت من الأخصاص كالغرف ، ولها سطوح يستراح فيها بالليل من أذى الحر. وبهذه القرية آثار قديمة تدل على أنها كانت مدينة قديمة ، وأثر سورها المحدق بها باق إلى اليوم. وبها موضع فيه قبة مشيدة عتيقة ، يذكر أنه كان منزل حواء أم البشر ، صلى الله عليها ، عند توجهها إلى مكة ، فبني ذلك المبنى عليه تشهيرا لبركته وفضله ، والله أعلم بذلك. وفيها مسجد مبارك منسوب إلى عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، ومسجد آخر له ساريتان من خشب الأبنوس ينسب أيضا إليه ، رضي الله عنه ، ومنهم من ينسبه إلى هارون الرشيد ، رحمة الله عليه.
وأكثر سكان هذه البلدة مع ما يليها من الصحراء والجبال أشراف علويون : حسنيون وحسينيون وجعفريون ، رضي الله عن سلفهم الكريم. وهم من شظف العيش بحال يتصدع له الجماد إشفاقا ، ويستخدمون أنفسهم في كل مهنة من المهن : من إكراء جمال إن كانت لهم ، أو مبيع لبن أو ماء ، إلى غير ذلك من تمر يلتقطونه أو حطب يحتطبونه. وربما تناول ذلك نساءهم الشريفات بأنفسهن ، فسبحان المقدر لما يشاء. ولا شك أنهم أهل بيت ارتضى الله لهم الآخرة ولم يرتض لهم الدنيا. جعلنا الله ممن يدين بحب أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
وبخارج هذه البلدة مصانع قديمة تدل على قدم اختطاطها ، ويذكر أنها كانت من مدن الفرس. وبها جباب منقورة في الحجر الصلد ، يتصل بعضها ببعض ، تفوت الإحصاء كثرة. وهي داخل البلد وخارجه ، حتى إنهم يزعمون أن التي خارج البلد ثلاثمائة وستون جبا ، ومثل ذلك داخل البلد. وعاينا نحن جملة كثيرة لا يأخذها الإحصاء. وعجائب الموضوعات كثيرة ، فسبحان المحيط علما بها.