فمن بعض الآثار المؤذنة بذلك عندهم أن بين جامع ابن طولون والقاهرة برجين مقتربين عتيقي البناء ، على أحدهما تمثال ناظر جهة المغرب ، وكان على الآخر تمثال ناظر إلى المشرق. فكانوا يرون أن أحدهم إذا سقط ، أنذر بغلبة أهل الجهة التي كان ناظرا إليها على ديار مصر وسواها. وكان من الاتفاق العجيب أن وقع التمثال الناظر إلى المشرق فتلا وقوعه استيلاء الغز على الدولة العبيدية ، وتملكهم ديار مصر وسائر البلاد. وهم الآن متوقعون سقوط التمثال الغربي ، وحدثان ما يؤملونه من ملكة أهله لهم ، إن شاء الله. ولم يبق إلا الكائنة السعيدة من تملك الموحدين لهذه البلاد ، فهم يستطلعون بها صبحا جليا ويقطعون بصحتها ، ويرتقبونها ارتقاب الساعة التي لا يمترون في إنجاز وعدها. شاهدنا من ذلك بالإسكندرية ومصر وسواهما ، مشافهة وسماعا ، أمرا غريبا يدل على أن ذلك الأمر العزيز أمر الله الحق ودعوته الصدق. ونمي إلينا أن بعض فقهاء هذه البلاد المذكورة وزعمائها قد حبّر خطبا أعدّها للقيام بها بين يدي سيدنا أمير المؤمنين ، أعلى الله أمره. وهو يرتقب ذلك اليوم ارتقاب يوم السعادة ، وينتظره انتظار الفرج بالصبر الذي هو عبادة ، والله ـ عز وجل ـ يبسطها من كلمة ، ويعليها من دعوة ، إنه على ما يشاء قدير.
إلى مكة المكرمة
وفي عشي يوم الثلاثاء الحادي عشر من الشهر المذكور ، وهو الثاني من شهر أغشت ، كان انفصالنا من جدة بعد أن ضمن الحجاج بعضهم بعضا ، وثبتت أسماؤهم في زمام عند قائد جدة علي بن موفق ، حسبما نفذ إليه أمر ذلك من سلطانه صاحب مكة مكثر بن عيسى المذكور. وهذا الرجل ، مكثر ، من ذرية الحسن بن علي ـ رضوان الله عليهما. لكنه ممن يعمل غير صالح ، فليس من أهل سلفه الكريم ، رضي الله عنهم.
وأسرينا تلك الليلة إلى أن وصلنا القرين مع طلوع الشمس. وهذا الموضع هو منزل الحاج ومحط رحالهم ، ومنه يحرمون وبه يريحون اليوم الذي يصبحونه. فإذا كان في عشية ، رفعوا وأسروا ليلتهم وصبحوا الحرم الشريف ، زاده الله تشريفا وتعظيما. والصادرون من الحج ينزلون به أيضا ، ويسرون منه إلى جدة. وبهذا الموضع المذكور بئر معينة عذبة ،