والحاج بسببها لا يحتاجون إلى تزود الماء غير ليلة إسرائهم إليه. فأقمنا بياض يوم الأربعاء المذكور مريحين بالقرين. فلما حان العشي ، رحنا منه محرمين بعمرة ، فأسرينا ليلتنا تلك ، فكان وصولنا مع الفجر قريب الحرم. فنزلنا مرتقبين لانتشار الضوء.
ودخلنا مكة ، حرسها الله ، في الساعة الأولى من يوم الخميس الثالث عشر لربيع المذكور ، وهو الرابع من شهر أغشت ، على باب العمرة. وكان إسراؤنا تلك الليلة المذكورة ، والبدر قد ألقى على البسيطة شعاعه ، والليل قد كشف عنا قناعه ، والأصوات تصك الآذان بالتلبية من كل مكان ، والألسنة تضج بالدعاء وتبتهل إلى الله بالثناء ، فتارة تشتد بالتلبية ، وآونة تتضرع بالأدعية ، فيا لها ليلة كانت في الحسن بيضة العقر ، فهي عروس ليالي العمر وبكر بنيات الدهر ، إلى أن وصلنا ، في الساعة المذكورة من اليوم المذكور ، حرم الله العظيم ومبوّأ الخليل إبراهيم. فألفينا الكعبة الحرام عروسا مجلوة مزفوفة إلى جنة الرضوان ، محفوفة بوفود الرحمن ، فطفنا طواف القدوم ، ثم صلينا بالمقام الكريم ، وتعلقنا بأستار الكعبة عند الملتزم ، وهو بين الحجر الأسود والباب ، وهو موضع استجابة الدعوة. ودخلنا قبة زمزم وشربنا من مائها وهو «لما شرب له» كما قال ، صلى الله عليه وسلم. ثم سعينا بين الصفا والمروة ، ثم حلقنا وأحللنا. فالحمد لله الذي كرمنا بالوفادة عليه ، وجعلنا ممن انتهت الدعوة الإبراهيمية إليه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وكان نزولنا فيها بدار تعرف بالنسبة إلى الحلال قريبا من الحرم ، ومن باب السدة أحد أبوابه ، في حجرة كثيرة المرافق المسكنية ، مشرفة على الحرم وعلى الكعبة المقدسة.
شهر جمادى الأولى
عرفنا الله بركته
استهل هلاله ليلة الاثنين الثاني والعشرين لأغشت ، وقد كمل لنا بمكة ، شرفها الله تعالى ، ثمانية عشر يوما ، فهلال هذا الشهر أسعد هلال اجتلته أبصارنا فيما سلف من أعمارنا. طلع علينا وقد تبوأنا مقعد الجدار الكريم وحرم الله العظيم والقبة التي فيها