آخر في الانشاء ، ذلك الخلق الآخر هو الانسان ، فهو شيء إذن ، والمراحل التكوينية شيء آخر ، فهو ليس من جنس تلك المراحل بل هو إمتداد لها ، وإبداع حادث فيه العلم والقدرة والحياة والنطق والإرادة ، وهي معالم تختلف تماماً عن جنس المواد التي ركب منها ، وهذا ملحظ دقيق للغاية.
وتناسل هذا الانسان الأول « آدم » فكانت ثمرته « قابيل وهابيل » ولمّا كان التعليل الكوني في خلق الانسان وسواه هو توحيد الله وعبادته : ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ) (١) والعبادة تشمل كل الفروض والسنن التي نادىٰ بها شعار الخلق بما فيها التقرب إلى الله في مراسم القرابين ، فقرّب قابيل قربانه فلم يتقبل منه ، وتقبل من أخيه هابيل ، فأخذته الأنانية ، وتمكن منه الغيظ وربما الحسد ، فأقدم على قتله دون تورّع ، أما كيف علما بتقبل القربان وعدمه « فإنه كان من المعهود عند الأمم السابقة تقبل القربان المتقرب به بأكل النار إياه ، قال تعالى : ( حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ) (٢) .. فمن الممكن أن يكون التقبل للقربان في هذه القصة أيضاً على هذا النحو .. وكيف ما كان فالقاتل والمقتول جميعاً كانا يعلمان قبوله من أحدهما وردّه من الآخر » (٣). ذلك ما يقرره القرآن في سورة المائدة الآيات ( ٢٧ ـ ٣١ ) والتي تبدأ بقوله تعالى : ( * وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ (٢٧) ) (٤).
ومن هنا بدأ الصراع الدموي عند الانسان متمثلاً بالكفر والايمان ، ومرت البشرية بأدوار وأطوار لا يعرض القرآن لتفصيلها دون الاجمال ، حتى بعث أبو البشر الثاني نوح عليهالسلام في العراق ، وفي الكوفة على وجه التحديد ، ذلك ما يحكيه القرآن في خطابه للنبي محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قال تعالىٰ : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا
__________________
(١) الذاريات : ٥٦.
(٢) آل عمران : ١٨٣.
(٣) الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : ٥ / ٣٠٠.
(٤) المائدة : ٢٧.