مذكوراً في الخلق » (١). وفي رواية أخرى عنه عليهالسلام رواها زرارة بن أعين في تفسير جزء الآية ، يقول الباقر عليهالسلام : « كان شيئاً ولم يكن مذكوراً » (٢). فالانسان كان شيئاً في علم الله وتقديره ، وإن كان معدوماً بعد لم يوجد ، ثم صار شيئاً مذكوراً بعد خلقه وتكوينه ، سواءً أنظرنا في ذلك إلى الطريق الاعجازي في الخلق ، أو الطريق الفطري في التكوين المتسلسل المنظور إليه في قوله تعالىٰ : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) ) التين / ٤ ـ ٥. وهذا أيضاً طريق إعجازي محض أن يخلق من هذه المادة الميتة إنساناً متكاملاً في أحسن تقويم فكان ذا هيئة حسنة ، وصورة مترفة ، وروعة نادرة ، حتى عاد مستوياً أيام شبابه ونضارته مثلاً ، ثم ردّ إلى الهرم والشيخوخة ، وورد مورد العجز والكبر ، فتسافل في خلقه من قوة إلى ضعف ، ومن نضارة إلى إنهدام ، ومن جمال الفتوة إلى تلاشي القوة ، فبعد أن كان ذا هيئة مشرقة وضاءة إستبدلها بالكبر والانحناء والخور.
ولكن الشذرات الثمينة المتناثرة في القرآن الكريم ، تقتضي الاضافة لهذا الفهم ـ وإن كان حقاً في واقعه ـ وتريد منا أن نرتفع إلى المستوى الأعظم الذي يحدب على تبليغه القرآن بياناً إلهياً شمولياً لا يغادر شيئاً ، وذلك : أن الانسان قد خلق بإرادة الله تعالى ولطف عنايته خلقاً خاصاً فكان نموذجاً راقياً للتقويم والثبات والكمال ، وهذا كله يقتضي له ان يتصاعد بروحه وتفكيره وتقدير إلى أعلى عليين ، وهو ما قدره له الله تعالى لو تمثل الشكر لنعمه المتواترة ، اعتداداً بهذا العطاء الفياض في الخلق صورة وعلماً وإرادة وتفكيراً واختياراً وإبداعاً وفلسفة ، فهو بهذا حريّ بأن يعرج بمستواه الخلقي في كل وجوه الخلق الظاهرة والباطنة ، المعروفة لديه والمجهولة إلى حيث يصبح من أهل السعادة والنّعيم السرمدي الخالد. ولكن هذا الانسان ـ إلا القليل من جنسه ـ قد إنحط بنزعانه اللاإنسانية وسلوكه المنحرف إلى سلخ معنى الانسانية عن نفسه فردّ إلى أسفل سافلين ، وهو نهاية ما يمكن أن يردّ به الله إنساناً بإنحطاطه إلى الدرجات السفلىٰ المخصصة لأهل العذاب والشقاء والانهيار التام ، فكتب على نفسه
__________________
(١) (٢) الطبرسي : مجمع البيان : ٥ / ٤٠٦.