الانحدار والانزلاق في الهوة السحيقة التي كان ينبغي له أن يتجنبها ويكون في أمن من مزلقتها وتدهورها.
هذا الطرح الموضوعي لمعنى الآية هو الذي يلائم الاستثناء المنقطع بعد الآيتين في قوله تعالى : ( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) ) التين / ٦. بدليل أن حكم الخلق التركيبي للانسان يستوي فيه المؤمن والكافر ، الموحد والملحد ، الصادق والمنافق ، بدليل قوله تعالى : ( وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) ) يس / ٦٨. و « من » من أدوات العموم ، فكل معمّر من الناس ينتكس في الخلق.
هذه هي الحقيقة الأولى ؛ والحقيقة الثانية أن لله خلقاً آخر من الناس ليس من الطين ، وليس من طريق التزاوج التلقيحي ، ولكنه خلق إعجازي آخر بإرادته التكوينية المطلقة ، ونموذج هذا الخلق هو عيسى بن مريم عليهالسلام ، قال تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٥٩) ) آل عمران / ٥٩. قال ابن عباس والحسن وقتادة : « هذه الآية نزلت في وفد نجران : السيد والعاقب ، قالا للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : هل رأيت ولداً من غير ذكر ؟ » (١). فبدأ بيان ذلك بالرد على هؤلاء بالأصل التركيبي للأنسان وهو التراب ، وبالأب الأكبر للبشر وهو آدم ، فخاطب القرآن الذائقة الفطرية بالمنطق الفطري ، واستنزل الحجة الصغرى بالحجة الكبرى ، وأبان أن منطق الأعجاز في الخلق يختلف عن المنطق الطبيعي في التكوين لدى التزاوج والتلاقح والتناسل ، فالأصل التركيبي للبشر هو التراب ، وهذا ما يقاس عليه عيسى عليهالسلام في التكوين ، فآدم : نشأته وتكوينه مباشران لم يسبقا بقانون طبيعي وكذلك عيسى ، وكلاهما خاضعان للارادة التكوينية من قبل الله تعالى « كن فيكون » ، وهذا سر الحياة الذي لا يعلمه إلا الله ، دون التقاء ذكر بأنثى ، أو تلاقح خلية ببيضة ، وذلك طريق الأخصاب ، وسنن الانجاب (٢).
والقرآن يكاد يستقطب الحديث عن المدرك الطبيعي والاعجازي في
__________________
(١) الطوسي ، التبيان في تفسير القرآن : ٣ / ٤٨٢.
(٢) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : ٢٩٦.