شيئاً (١). هذا المناخ المتلاطم عالمي المصداق والمفهوم ، إنساني الفهم والتصور.
٤ ـ وهناك من أمثال القرآن ما تقف عنده متأملاً مترصداً ، ولنتائجه خاشعاً متحققاً ، يأخذ بيدك إلى حياة أوسع ، وتصور أشمل ، وتدقيق أروع ، تلمس من خلال ذلك كله رسالة القرآن العالمية ، أنت الآن إزاء مثلين متراصفين في سورة واحدة ، يتحدث الأول منهما عن حياة الصحراء والسراب الخادع فيها ، وما يترشح في ضوء ذلك من معنى إيحائي يتمثله العربي في باديته ، ويتمرسه البدوي في حياته. قال تعالىٰ : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ (٣٩) ) النور / ٣٩.
فالمثل القرآني تصوير بالتمثيل التشبيهي لأعمال الكافرين مشبهة بذلك السراب المنتشر في الصحراء ، يتخيله الظامئ ماءً ، ويكتشفه لدى التحقيق التماعاً خلّباً ، وهو بأمس الحاجة إلى الماء ، ولا ماء ، فهو لا يجده ولكنه يجد الله عنده فيوفيه الحساب بسرعة مذهلة ، ولك أن تتصور هذا السراب في صحراء نجد وبادية الحجاز وطرق الشام. هذا الفهم العربي الخالص لهذا المناخ يتقاطع بمناخ آخر تتحدث عنه البحار الهادرة في محيط كالمحيط الأطلسي أو الهادي ، وتتجلىٰ صوره في بلاد كبلاد الضباب الدائم والظلمات المتراكبة والسحاب الجاثم ، مما لا عهد به للعرب ، ولا علاقة له بأثباج جزيرة العرب. قال تعالىٰ : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (٤٠) ) النور / ٤٠.
هذه ظلمات في بحر لجي لا قعر له ولا ساحل ، عميق غزير المادة تحوطه الأمواج المتدافعة ، ويعلوه السحاب الثقال ، وتملؤه الظلمات المرعبة ، ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة الغمام ، حتى ليخطئ الانسان فيه تشخيص يديه ، فلا يرى ذلك أصلاً (٢).
__________________
(١) المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : ٢٩٣.
(٢) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية : ٢٨٢ + مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : ٣٥٦.