بحكم السياق ، لا الوضع ، إذ تكشف سياقاً عن أمرٍ ثابتٍ في نفس المتكلّم هو الذي دعاه إلى استعمال الصيغة ، وفي هذه المرحلة تتعدّد الدواعي التي يمكن أن تدلّ عليها الصيغة بهذه الدلالة ، فتارةً يكون الداعي هو الطلب ، واخرى الترجّي ، وثالثةً التعجيز ، وهكذا ؛ مع انحفاظ المدلول التصوّري للصيغة في الجميع.
هذا كلّه على المسلك المختار المشهور القائل : بأنّ الدلالة الوضعيّة هي الدلالة التصوّريّة. وأمّا بناءً على مسلك التعهّد القائل : بأنّ الدلالة الوضعيّة هي الدلالة التصديقيّة ، وأنّ المدلول الجدّيّ للجملة التامّة هو المعنى الموضوع له ابتداءً فلا بدّ من الالتزام بتعدّد المعنى في تلك الموارد ؛ لاختلاف المدلول الجدّيّ.
ثمّ إنّ الظاهر من الصيغة أنّ المدلول التصديقيّ الجدّيّ هو الطلب دون سائر الدواعي الاخرى ؛ وذلك لأنّه : إن قيل بأنّ المدلول التصوّريّ هو النسبة الطلبيّة فواضح أنّ الطلب مصداق حقيقيّ للمدلول التصوّريّ دون سائر الدواعي ، فيكون أقرب إلى المدلول التصوّريّ ، وظاهر كلّ كلامٍ أنّ مدلوله التصديقيّ أقرب ما يكون للتطابق والمصداقيّة للمدلول التصوّريّ.
وأمّا إذا قيل بأنّ المدلول التصوّريّ هو النسبة الإرساليّة فلأنّ المصداق الحقيقيّ لهذه النسبة إنّما ينشأ من الطلب ، لا من سائر الدواعي ، فيتعين داعي الطلب بظهور الكلام.
ولكن قد يتّفق أحياناً أن يكون المدلول الجدّيّ هو قصد الإخبار عن حكمٍ شرعيٍّ آخر غير طلب المادّة أو إنشاء ذلك الحكم وجعله ، كما في قوله : «اغسل ثوبك من البول» ، فإنّ المراد الجدِّي من «اغسل» ليس طلب الغسل ، إذ قد يتنجّس ثوب الشخص فيهمله ولا يغسله ولا إثم عليه ، وإنّما المراد بيان أنّ الثوب يتنجّس بالبول وهذا حكم وضعيّ ، وأ نّه يطهر بالغسل وهذا حكم وضعيّ آخر ، وفي هذه الحالة تسمّى الصيغة بالأمر الإرشادي ؛ لأنّها إرشاد وإخبار عن ذلك الحكم.