أحدهما : أنّ التكليف إنّما يكون محرّكاً للعبد بوجوده العلمي ، لا بوجوده الواقعيّ ، كما هو الحال في سائر الأغراض الاخرى ، فالأسد ـ مثلاً ـ إنّما يحرّك الإنسان نحو الفرار بوجوده المعلوم لابوجوده الواقعيّ ، وعليه فلامقتضي للتحرّك مع عدم لعلم. ومن الواضح أنّ العقاب على عدم التحرّك مع أنّه لا مقتضي للتحرّك قبيح.
والآخر : الاستشهاد بالأعراف العقلائيّة ، واستقباح معاقبة الآمر في المجتمعات العقلائيّة مأموره على مخالفة تكليفٍ غير واصل.
أمّا الوجه الأوّل فيرد عليه : أنّ المحرّك للعبد إنّما هو الخروج عن عهدة حقّ الطاعة للمولى ، وغرضه الشخصيّ قائم بالخروج عن هذه العهدة ، لابامتثال التكليف بعنوانه ، فلابدّ من تحديد حدود هذه العهدة ، وأنّ حقّ الطاعة هل يشمل التكاليف المشكوكة ، أوْ لا؟
فإن ادّعي عدم الشمول كان مصادرةً وخرج البيان عن كونه برهاناً ، وإن لم يفرغ عن عدم الشمول فلا يتمّ البرهان المذكور ، إذ كيف يفترض أنّ التحرّك مع عدم العلم بالتكليف بلا مقتضٍ ، مع أنّ المقتضي للتحرّك هو حقّ الطاعة الذي ندّعي شموله للتكاليف المشكوكة أيضاً؟!
وأمّا الوجه الثاني فهو قياس لحقّ الطاعة الثابت للمولى (سبحانه وتعالى) على حقّ الطاعة الثابت للآمر العقلائيّ ، وهو قياس بلا موجب ؛ لأنّ حقّ الطاعة للآمر العقلائيّ مجعول لا محالة من قبل العقلاء ، أو آمرٍ أعلى ، فيكون محدّداً سعةً وضيقاً تبعاً لجعله ، وهو عادةً يجعل في حدود التكاليف المقطوعة ، وأمّا حقّ الطاعة للمولى سبحانه فهو حقّ ذاتيّ تكوينيّ غير مجعول ، ولا يلزم من ضيق دائرة ذلك الحقّ المجعول ضيق دائرة هذا الحقّ الذاتيّ ، كما هو واضح ، فالمعوّل في تحديد دائرة هذا الحقّ على وجدان العقل العملي ، وهو يقتضي التعميم.
فالصحيح إذن : أنّ القاعدة العمليّة الأوّليّة هي أصالة الاشتغال بحكم العقل مالم يثبت الترخيص في ترك التحفّظ.