وحين جاء رجل مثل ابن مضاء القرطبي (ـ ٥٩٢ ه) رد على النحاة هذه العلل الثواني والثوالث ، وقبل العلة الأولى في رفع (زيد) من (قام زيد) لأنه فاعل ، وذلك لأن ما عدا هذه العلة (لا يزيدنا علما بأن الفاعل مرفوع ، ولو جهلنا ذلك لم يضرنا جهله ، إذ قد صح عندنا رفع الفاعل الذي هو مطلوبنا ، باستقراء المتواتر الذي يوقع العلم) (٢١).
والحق في ذلك مع ابن مضاء ، لأن في هذه التعليلات المتتالية إثقالا لهذه الصناعة اللغوية ، بمصطلحات صناعات أخرى ، كل امتيازاتها أنها كانت أكثر جلبة منها ، فظهرت كتبهم النحوية المتأخرة خليطا من فنون مختلفة ، وهذا شئ لا حاجة به للإطالة ، لأنه معروف.
٢ ـ أن بناة هذه الأصول كانوا يصرحون بأن طريقتهم في جمعها هي (طريقة الفقهاء) أي أنهم جمعوها مما تفرق من مناهج النحاة السابقين ، كما جمع الأحناف أصولهم مما تفرق من مناهج فقهاء المذهب.
يقول ابن جني ـ وهو أقدم واضعي هذه الأصول ، وأكثرهم دقة ، وملاحظة واستيعابا ، بعد بحث مستفيض في تخصيص العلل ـ : (واعلم أن هذه المواضع التي ضممتها ، وعقدت العلة على مجموعها قد أرادها أصحابنا ـ يعني البصريين ـ وعنوها ، وإن لم يكونوا جاءوا بها مقدمة محروسة ، فإنهم لها أرادوا
__________________
٦٤ ـ ٦٥ ، وترتيب هذه العلل على الشكل الآتي :
إذا سئل عن (زيد) في (قام زيد) : لم رفع؟ فيقال : لأنه فاعل = (العلة الأولى أو التعليمية).
ثم يسأل : ولم رفع الفاعل؟ فيقال : للفرق بينه وبين المفعول = (العلة الثانية أو القياسية).
ثم إذا سئل : ولم لم يعكس الأمر فيعطى الرفع للمفعول والنصب للفاعل؟ فيقال : لأن الفاعل واحد والمفاعيل قد تكون أكثر من واحد ، فأعطي الرفع ـ وهو الأثقل ـ للأقل ، والنصب ـ وهو الأخف ـ للأكثر ، ليقل في كلامهم ما يستثقلون ويكثر ما يستخفون = وهذه (العلة الثالثة أو الجدلية).
أنظر في ذلك : الخصائص ـ لابن جني ـ ١ / ٤٨ والرد على النحاة ـ لابن مضاء ـ : ١٥١.
(٢١) الرد على النحاة : ١٥٢.