الاجماع بعد النص ، ثم يأتي القياس على أصل ثبت بالنص أو الاجماع.
وسر مخالفة ابن جني ترتيب الأصوليين ، أن حجية الاجماع عندهم تستند إلى قوله صلىاللهعليهوآله : (لا تجتمع أمتي على ضلالة) الذي أعطى لإجماعهم العصمة عن الوقوع في الخطأ ، (ولم يرد ممن يطاع أمره في قرآن ولا سنة أنهم ـ النحاة ـ لا يجتمعون على الخطأ) (٦٨). من أجل ذلك قدم القياس على إجماعهم ، وسوغ لكل قائس بلغ شأوهم ، أن يخالف إجماعهم ، وذلك لأن النحو (علم منتزع من استقراء هذه اللغة ، فكل من فرق له عن علة صحيحة ، وطريق نهجة ، كان (خليل) نفسه و (أبا عمرو) فكره) (٦٩).
ثم ذكر بعد ذلك : أنه (مما جاز خلاف الاجماع الواقع فيه منذ بدئ هذا العلم وإلى آخر هذا الوقت ، ما رأيته أنا في قولهم : (هذا حجر ضب خرب) فهذا يتناوله آخر عن أول ، وتال عن ماض ، على أنه غلط من العرب ، لا يختلفون فيه ولا يتوقفون عنه ... إلى آخره) ثم يذكر حجته في مخالفة هذا الاجماع (٧٠).
وحين تصل إلى هذا الحد من قول أبي الفتح ، تعجب ممن فهم عن هذا الرجل قوله بحجية الاجماع ، لأنه ـ وهو من نعرف جلالة قدر ، ودقة ملاحظة ، وتمكنا من زمام قول ـ لا يمكن أن يصل إلى رأي لا محصل له!! وذلك لأنه إما أن يكون إجماع البلدين ـ عنده ـ حجة ، فبعد عصر انعقاده لا يصح له ولا لأي مجتهد آخر ، وإن بلغ مبلغ الخليل ، أن يخرق هذا الاجماع لأية علة فرقت له ، وهذا هو معنى حجية الاجماع عند من يعترف به ... وإما أن يكون جائزا له ، أو لغيره ، أن يخرجوا على إجماع البلدين ، لإمكان وقوعهم في الخطأ ـ وهو رأي سديد جدا ـ فلماذا يذهب إذن إلى أن إجماعهم حجة؟!
قد تقول لي : إن أبا الفتح اشترط لحجية هذا الاجماع من أول : أن يعطيك خصمك يده ، ألا يخالف هذا الاجماع المنصوص ، ولا المقيس
__________________
(٦٨) ١ / ١٨٩ ـ ١٩٠.
(٦٩) ١ / ١٨٩ ـ ١٩٠.
(٧٠) الخصائص ١ / ١٩٠.