ففكرت في عمل قصيدتي هذه ، فعملتها ، واستشفعت بها إلى الله تعالى في أن يعافيني ، وكررت إنشادها ، ودعوت ، وتوسلت ، ونمت ، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمسح وجهي بيده المباركة ، وألقى علي بردة ، فانتبهت ووجدت في نهضة ، فقمت وخرجت من بيتي ... ".
فالفالج يبطل نصفه ، ولا شك أنه عمل بأسباب الشفاء ولم يفلح ، وطالت علته وأيس من الطب في شفائها ، وشفت روح المريض الصوفي ، وتطلعت إلى ملاذها الأخير إلى الجانب الروحي الإيماني ، إلى الله الذي أنزل الداء وجعل له الدواء ، فالتجأ الصوفي إلى ربه ، متوسلا بنبيه الذي كان طبيبا لهذه الأمة ومخلصا لها ، عسى أن يحظى بما عجز الحكماء عنه ، فنظم مدحته النبوية ، وأنشدها على كبير اعتقاد بالقبول والشفاء ، ورأى في المنام ما رأى ، وتحقق له ما أمل ..
ثم انطلقت قصيدته (البراءة) هذه تجوب الآفاق ، وتنتشر بين الناس أيما انتشار ويتدافع حولها الشارحون والمقلدون والمعارضون والمشطرو والمخمسون ... بحيث لم تحظ قصيدة عربية قط بما كان للبراءة من مكانة وشهرة بين الناس ، حتى أصبحت مجالس معظم الصوفية وحلقاتهم لا تفتتح وتختتم إلا بها ، وربما وصفت أبياتها للتداوي بها ، «فبعضها أمان من الفقر ، وبعضها أمان من الطاعون». والقصيدة هذه ، التي ربما سميت : البردة ، للبردة التي ألقاها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على ناظمها في نومه ، وربما وسمت بالبراءة ، لأن البوصيري بسببها برئ من علته ، هذه القصيدة كانت عدتها مئة وستين بيتا ، كما وردت في (الديوان) ، على البحر البسيط ، وروي الميم المكسورة.
بعد هذه الاستطرادة التي لا بد منها ، يستطيع المرء أن يقارن وبسهولة بين (البردة) ، وبين أول بديعية نظمت على يد الصفي الحلي ، ثم يقارن بين دوافع كل من القصيدتين ، ويخرج بعد ذلك ودون كبير عناء ، إلى ما وصلنا إليه