من الجاحد ، وجعل الشّر ابتلاء أيضا ليعرف الصابر من الساخط ، وليرجع أهل الغي والفساد عن غيّهم وفسادهم ، ويقلعوا عن طغيانهم وضلالهم. والله تعالى أيضا جعل أعمال العباد سببا لما ينزل بهم من خير وشرّ غالبا. قال الزّمخشري في تفسير (طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) : أي سبب خيرهم وشرّهم عند الله ، وهو حكمه ومشيئته ، والله هو الذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة والسّيئة ، وليس شؤم أحد ولا يمنه بسبب فيه ، كقوله تعالى : (قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ويجوز أن يكون معناه : ألا إنما سبب شؤمهم عند الله ، وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوؤهم لأجله ، ويعاقبون عليه بعد موتهم بما وعدهم الله في قوله سبحانه : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) [غافر ٤٠ / ٤٦]. (١)
ولكن أكثر الناس لا يعلمون حكمة الله في تصريف الكون ، ولا يعلمون كيفية ارتباط الأسباب بالمسببات ، ولا أن الأمور تجري بالمقادير ، وأنّ كل شيء عنده بمقدار ، فليس الشؤم بسبب موسى وقومه ، وإنما بسبب سوء العمل ، وبمقتضى النظام الإلهي في قانون السّببية المذكور.
وفضلا عن أن كلّا من الحسنات والسيئات لم تذكّرهم بما يجب عليهم نحو ربّهم ، فإنهم تمرّدوا وعتوا ، وعاندوا الحق ، وأصرّوا على الباطل بقولهم لموسى : إن أي آية جئتنا بها ، وأي حجّة ودلالة أظهرتها لنا ، وأثبتها لإقناعنا وصرفنا عما نحن عليه من ديننا ، رددناها ولم نقبلها منك ، ولا نؤمن بك ولا بما جئت به ، ولا نصدّق برسالتك وقولك أبدا.
لذا عاقبهم الله على كفرهم وتكذيبهم وجرائمهم ، فأرسل عليهم الطّوفان : وهو كثرة الأمطار المتلفة للزروع والثمار ، كما قال ابن عباس ، فالطّوفان : ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل.
__________________
(١) الكشاف : ١ / ٥٦٨ ـ ٥٦٩.