عند ذلك ، أى يتحير. وانتصب (بُهْتاناً) على الحال ، أى باهتين وآثمين ، أو على أنه مفعول له وإن لم يكن غرضاً ، كقولك : قعد عند القتال جبناً. والميثاق الغليظ : حق الصحبة والمضاجعة ، كأنه قيل : وأخذن به منكم ميثاقا غليظاً ، أى بإفضاء بعضكم إلى بعض. ووصفه بالغلظ لقوّته وعظمه ، فقد قالوا : صحبة عشرين يوما قرابة ، فكيف بما يجرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ وقيل : هو قول الولىّ عند العقد : أنكحتك على ما في كتاب الله من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : استوصوا (١) بالنساء خيراً فإنهن عوان في أيديكم (٢) أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً)(٢٢)
وكانوا ينكحون روابهم (٣) ، وناس منهم يمقتونه (٤) من ذى مروآتهم ، ويسمونه نكاح
__________________
ـ محمد بن عبد الرحمن عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال : ركب عمر المنبر ثم قال أيها الناس ما إكثاركم في صدق النساء ، وقد كانت الصدقات فيما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه أربعمائة درهم فما دون ذلك ، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو مكرمة لم تسبقوهم إليها ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت له : يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا النساء في صدقهن على أربعمائة. قال : نعم ، قالت : أما سمعت الله يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) ... الآية فقال عمر : اللهم عفوا كل أحد أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر ، فقال : من شاء أن يعطي من ماله ما أحب.
١) هذا مركب من حديثين. الأول أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن الأحوص. قال شهدت حجة الوداع ـ فذكر حديثا ـ وفيه «واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم» وفي البخاري ومسلم من حديث أبى حازم عن أبى هريرة في أثناء حديث واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع ـ الحديث». والثاني أخرجه مسلم في حديث جابر الطويل في صفة الحج فقال فيه «واتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله» وروى أبو يعلى والبزار والطبري من رواية موسى بن عبيدة الربذي أحد الضعفاء عن صدقة بن يسار عن ابن عمر رفعه «أيها الناس ، النساء عوان في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله. (فائدة) العوان : جمع عانية ، وهي الأسيرة.
(٢) قوله «فإنهن عوان في أيديكم» في الصحاح : العاني الأسير. وقوم عناة ، ونسوة عوان. (ع)
(٣) قوله «ينكحون روابهم» في الصحاح. الراب زوج الأم. والرابة : امرأة الأب. وربيب الرجل : ابن امرأته من غيره. ونكاح المقت : كان في الجاهلية أن يتزوج امرأة أبيه. اه في موضعين. (ع)
(٤) قال محمود فيه : «كانوا ينكحون روابهم وناس منهم يمقتونه ... الخ» قال أحمد : وعندي في هذا الاستثناء سر آخر وهو أن هذا المنهي عنه ـ لفظاعته وبشاعته عند أكثر الخلق حتى كان ممقوتا قبل ورود الشرع ـ جدير أن يمتثل النهى فيه فيجتنب ، فكأنه قد امتثل النهى عنه حتى صار مخبراً عن عدم وقوعه ، وكأنه قيل : ما يقع نكاح الأبناء المنكوحات للآباء ولا يؤخذ منه شيء إلا ما قد سلف. وأما في المستقبل بعد النهى فلا يقع منه شيء البتة ، ومثل هذا النظر جار في مثل قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) فأجراه مرفوعا على أنه خبر وإن كان المراد نهيهم عن عبادة غير الله ، ولكن لما كان هذا المنهي جديرا بالاجتناب وكأنه اجتنب ، عبر عن النهى فيه بصيغة الخبر ورفع الفعل. وقد مضى هذا التقدير بعينه ثم لم يجر مثله في هذه الآية والله أعلم.