(تَوَفَّاهُمُ) يجوز أن يكون ماضيا كقراءة من قرأ : توفتهم. ومضارعا بمعنى تتوفاهم ، كقراءة من قرأ : توفاهم ، على مضارع وفيت ، بمعنى أن الله يوفى الملائكة أنفسهم فيتوفونها ، أى يمكنهم من استيفائها فيستوفونها (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) في حال ظلمهم أنفسهم (قالُوا) قال الملائكة للمتوفين (فِيمَ كُنْتُمْ) في أى شيء كنتم من أمر دينكم. وهم ناس من أهل مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة. فإن قلت : كيف صح وقوع قوله (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) جواباً عن قولهم (فِيمَ كُنْتُمْ)؟ وكان حق الجواب أن يقولوا : كنا في كذا أو لم نكن في شيء؟ قلت : معنى (فِيمَ كُنْتُمْ) للتوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين ، حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا ، فقالوا : كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به واعتلالا بالاستضعاف ، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء ، فبكتتهم الملائكة بقولهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ومن الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة. وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب ، لبعض الأسباب والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر ، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة ـ حقت عليه المهاجرة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة ، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام» (١). اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني فاجعلها سببا في خاتمة الخير ودرك المرجوّ من فضلك والمبتغى من رحمتك وصل جواري لك بعكوفى عند بيتك ، بجوارك في دار كرامتك يا واسع المغفرة. ثم استثنى من أهل الوعيد المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة في الخروج لفقرهم وعجزهم ولا معرفة لهم بالمسالك. وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة ، فقال جندب بن ضمرة أو ضمرة بن جندب لبنيه : احملوني ، فإنى لست من المستضعفين ، وإنى لأهتدى الطريق ، والله لا أبيت الليلة بمكة. فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة وكان شيخا كبيراً فمات بالتنعيم (٢). فإن قلت : كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد (٣) ، كأنهم كانوا يستحقون الوعيد مع الرجال والنساء
__________________
(١) أخرجه الثعلبي في تفسير العنكبوت من رواية عباد بن منصور الناجي عن الحسن مرسلا.
(٢) ذكره الثعلبي بغير سند هكذا. وأخرجه الواحدي في الأسباب من طريق أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) فلما قرأها المسلمون قال جندب بن ضمرة الليثي وكان شيخا كبيراً : احملوني فذكره. وأخرجه أبو يعلى والطبراني من هذا الوجه مختصراً.
(٣) قال محمود : «الاستثناء من المتوعدين في قوله : (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) ... الخ» قال أحمد : قوله «إن المراهقين من الولدان يكلفون إلحاقا بالبالغين» مردود بقوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام ـ