لو استطاعوا حيلة واهتدوا سبيلا؟ قلت : الرجال والنساء قد يكونون مستطيعين مهتدين وقد لا يكونون كذلك. وأما الولدان فلا يكونون إلا عاجزين عن ذلك ، فلا يتوجه عليهم وعيد ؛ لأن سبب خروج الرجال والنساء من جملة أهل الوعيد إنما هو كونهم عاجزين ، فإذا كان العجز متمكنا في الولدان لا ينفكون عنه ، كانوا خارجين من جملتهم ضرورة. هذا إذا أريد بالولدان الأطفال ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء فيلحقوا بهم في التكليف. وإن أريد بهم العبيد والإماء البالغون فلا سؤال. فإن قلت : الجملة التي هي (لا يَسْتَطِيعُونَ) ما موقعها؟ قلت : هي صفة للمستضعفين أو للرجال والنساء والولدان. وإنما جاز ذلك والجمل نكرات ، لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس لشيء بعينه ، كقوله :
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِى (١)
فإن قلت : لم قيل (عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) بكلمة الإطماع؟ قلت : للدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه ، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول عسى الله أن يعفو عنى ، فكيف بغيره.
(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠) (مُراغَماً) مهاجراً وطريقا يراغم بسلوكه قومه ، أى يفارقهم على رغم أنوفهم. والرغم :الذلّ والهوان. وأصله لصوق الأنف بالرغام ـ وهو التراب ـ يقال : راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك. قال النابغة الجعدي :
كَطَوْدٍ يُلَاذُ بِأَرْكَانِهِ |
|
عَزِيزِ الْمَرَاغِمِ وَالْمَذْهَبِ (٢) |
__________________
ـ «رفع القلم عن ثلاث : عن الصبى حتى يحتلم» فجعل البلوغ نفسه مناط التكليف. وهذا مذهب الجماهير ، ولم يبلغنا خلافه. وقال الزمخشري : أراد الحديثى العهد بالصبي وإن بلغوا ، تسمية لهم بالاسم السالف لقرب عهدهم به ، كما قال : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) فسماهم يتامى وإن بلغوا ، إذ لا تدفع أموالهم حتى يبلغوا ، لأنهم حديثو عهد باليتم. والغرض تعجيل دفع الأموال لهم إذا رشدوا ، وإن قرب عهدهم باليتم حتى أنهم لذلك يعبر عنهم باليتامى ، ولا يماطلوا ولو قال الزمخشري في الولدان كذلك ، لكان قولا سديداً ، والله أعلم.
(١) مر شرح هذا الشاهد ص ١٦ من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٢) للنابغة الجعدي. والطود : الجبل العظيم. ويلاذ : يتحصن. والرغم : التصاق الأنف بالرغام أى التراب ، وهو كناية عن الذل والهوان. وفي سلوك سبيل المهاجرة مراغمة للخصم مفارقة له على رغم أنفه. والمراغم ـ على ـ