هي على حالها قبل الاستعارة كما إذا صرح بتلك الألفاظ كلها. الثالث أن يشبه الهدى بالمركوب على طريق الاستعارة بالكناية وتجعل كلمة (عَلى) قرينة لها على عكس الوجه الأول. وهذا الخلاف بين الشيخين في هذه المسألة مما سارت به الركبان وعقدت له المجالس وصنفت فيه الرسائل ، وأول ما وقع بينهما في مجلس تيمور ـ وكان الحكم نعمان الخوارزمي المعتزلي ـ فحكم ـ والظاهر أنه لأمر ما ـ للسيد السند والعلماء إلى اليوم فريقان في ذلك ولا يزالون مختلفين فيه إلا أن الأكثر مع السعد وأجابوا عن شبهة السيد بأن انتزاع شيء من أمور متعددة يكون على وجوه شتى فقد يكون من مجموع تلك الأمور كالوحدة الاعتبارية وقد يكون من أمر بالقياس إلى آخر كالإضافات وقد يكون بعضه من أمر وبعضه من آخر وعلى الأولين لا يقتضي تركيبه بل تعدد مأخذه فيجوز حينئذ أن يكون المدلول الحرفي لكونه أمرا إضافيا كالاستعلاء حالة منتزعة من أمور متعددة فلجريانها في الحرف تكون تبعية ولكون كل من الطرفين حالة إضافية منتزعة من أمور متعددة تمثيلية ، ولعل اختيار القوم في تعريف التمثيلية لفظ الانتزاع دون التركيب يرشد المنصف إلى عدم اشتراط التركيب في طرفيه وإلا لكان الأظهر لفظ التركيب ، وقد أشبعنا القول في ذلك وذكرنا ما له وما عليه في كتابنا ـ الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية ـ وفي هذا القدر هنا كفاية. وفي تنكير (هُدىً) إشارة إلى عظمته فلا يعرف حقيقته ومقداره إلا اللطيف الخبير وإنما ذكر الرب مع أن الهدى لا يكون إلا منه سبحانه تأكيدا لذلك بإسناده إليه جل شأنه ، وفيه مناسبة واضحة إذ حيث كان ربهم ناسب أن يهيئ لهم أسباب السعادتين ويمنّ عليهم بمصلحة الدارين وقد تكون ثم صفة محذوفة أي (عَلى هُدىً) أي هدى وحذف الصفة لفهم المعنى جائز وقيل يحتمل أن يكون التنوين للإفراد أي على هدى واحد إذ لا هدى إلا هدى ما أنزل إليه صلى الله تعالى عليه وسلم لنسخه ما قبله. و (مِنْ) لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف أي من هدى ربهم ، ومعنى كون ذلك منه سبحانه أنه هو الموفق لهم والمفيض عليهم من بحار لطفه وكرمه وإن توسطت هناك أسباب عادية ووسائط صورية على أن تلك الوسائط قد ترتفع من البين فيتبلج صبح العيان لذي عينين. وقد قرأ ابن هرمز ـ من ربهم ـ بضم الهاء وكذلك سائر هاءات جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء وأدغم النون في الراء بلا غنة الجمهور وعليه العمل ، وذهب كثير من أهل الأداء إلى الإدغام مع الغنة ورووه عن نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وأبي جعفر ويعقوب ، وأظهر النون أبو عون عن قالون ، وأبو حاتم عن يعقوب ، وهذه الأوجه جارية أيضا في النون والتنوين إذا لاقت (١) لاما (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفلاح الفوز والظفر بإدراك البغية وأصله الشق والقطع ويشاركه في معنى الشق مشاركه في الفاء والعين نحو ـ فلى وفلق وفلذ ـ وفي تكرار اسم الإشارة إشارة إلى أن هؤلاء المتصفين بتلك الصفات يستحقون بذلك الاستقلال بالتمكن في الهدى والاستبداد بالفلاح والاختصاص بكل منهما ولولاه لربما فهم اختصاصهم بالمجموع فيوهم تحقق كل واحد منهما بالانفراد فيمن عداهم وإنما دخل العاطف بين الجملتين لكونهما واقعتين بين كمال الاتصال والانفصال لأنهما وإن تناسبا مختلفان مفهوما ووجودا فإن الهدى في الدنيا والفلاح في الآخرة وإثبات كل منهما مقصود في نفسه وبهذا فارقا قوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩] فالثانية فيه مؤكدة للأولى إذ لا معنى للتشبيه إلا بالإنعام المبالغة في الغفلة فلا مجال للعطف بينهما و (هُمُ) يحتمل أن يكون فصلا أو بدلا فيكون (الْمُفْلِحُونَ) خبرا عن أولئك أو مبتدأ ـ والمفلحون ـ خبره والجملة خبر (..أُولئِكَ) وهذه الجملة لا تخلو عن إفادة الحصر كما لا يخفى. وقد ذكر غير
__________________
(١) قوله إذا لاقت كذا بخطه والأولى لاقتا كما هو ظاهر ا ه مصححه.