يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) [آل عمران : ١١٧] فإن التشبيه بحرث قوم كذلك لا يخفى حسنه لأن الإهلاك عن سخط أشد وأبلغ وفيه تنبيه على أن ما صنعوه من سد الآذان بالأصابع لا يغني عنهم شيئا وقد أحاط بهم الهلاك ولا يدفع الحذر القدر. وما ذا يصنع مع القضاء تدبير البشر. وجعل الاعتراض من جملة أحوال المشبه على أن المراد (بِالْكافِرِينَ) المنافقون ولا محيص لهم عن عذاب الدارين ووسط بين أحوال المشبه به لاظهار كمال العناية بشأن المشبه والتنبيه على شدة الاتصال مما يأباه الذوق السليم (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) استئناف آخر بياني كأنه قيل : فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقال (يَكادُ) إلخ ، وفي البحر يحتمل أن يكون في موضع جر لذوي المحذوفة فيما تقدم ـ ويكاد ـ مضارع كاد من أفعال المقاربة وتدل على قرب وقوع الخبر وأنه لم يقع والأول لوجود أسبابه والثاني لمانع أو فقد شرط على ما تقضي العادة به ، والمشهور أنها إن نفيت أثبتت وإن أثبتت نفت وألغزوا بذلك ، ولم يرتض هذا أبو حيان وصحح أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإثباتها إثبات ، واللام ـ في البرق للعهد إشارة إلى ما تقدم ـ نكرة ، وقيل : إشارة إلى البرق الذي مع الصواعق أي برقها وهو كما ترى وإسناد الخطف وهو في الأصل الأخذ بسرعة أو الاستلاب إليه من باب إسناد الإحراق إلى النار وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه قريبا. والشائع في خبر ـ كاد ـ أن يكون فعلا مضارعا غير مقترن بأن المصدرية الاستقبالية أما المضارع فلدلالته على الحال المناسب للقرب حتى كأنه لشدة قربه وقع وأما أنه غير مقترن ـ بأن ـ فلمنا فاتها لما قصدوا ونحو ـ وأبت إلى فهم وما كدت آئبا. وكاد الفقر أن يكون كفرا ، وقد كاد ـ من طول البلى أن يمحصا ـ قليل. وقرأ مجاهد وعلي بن الحسين ويحيى بن وثاب «يخطف» بكسر الطاء والفتح أفصح. وعن ابن مسعود «يختطف» ـ وعن الحسن «يخطف» ـ بضم الياء وفتح الخاء وأصله يختطف فأدغم التاء في الطاء. وعن عاصم وقتادة والحسن أيضا ـ «يخطّف» ـ بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة. وعن الحسن أيضا والأعمش ـ «يخطّف» ـ بكسر الثلاثة والتشديد وعن زيد ـ «يخطّف» ـ بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة وهو تكثير مبالغة لا تعدية ، وكسر الطاء في الماضي لغة قريش ، وهي اللغة الجيدة.
(كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) استئناف ثالث كأنه لما قيل إنهم مبتلون باستمرار تجدد خطف الأبصار فهم منه أنهم مشغولون بفعل ما يحتاج إلى الأبصار ساعة فساعة وإلا لغطوها كما سدوا الآذان ، فسئل وقيل : ما يفعلون في حالتي وميض البرق وعدمه؟ فأجيب بأنهم حراص على المشي ـ كما أضاء لهم ـ اغتنموه ـ ومشوا وإذا أظلم عليهم ـ توقفوا مترصدين. و (كُلَّما) في هذه الآية وأمثالها منصوبة على الظرفية وناصبها «ما» هو جواب معنى. و «ما» حرف مصدري أو اسم نكرة بمعنى وقت فالجملة بعدها صلة أو صفة وجعلت شرطا لما فيها من معناه وهي لتقدير ما بعدها بنكرة تفيد عموما بدليا ولهذا أفادت ـ كما ـ التكرار كما صرح به الأصوليون وذهب إليه بعض النحاة واللغويين واستفادة التكرار من (إِذا) وغيرها من أدوات الشرط من القرائن الخارجية على الصحيح ، ومن ذلك قوله :
إذا وجدت أوار الحب من كبدي |
|
أقبلت نحو سقاء القوم أبترد |
وزعم أبو حيان أن التكرار الذي ذكره الأصوليون وغيرهم في (كُلَّما) إنما جاء من عموم كل لا من وضعها وهو مخالف للمنقول والمعقول ، وقد استعملت هنا في لازم معناها كناية أو مجازا وهو الحرص والمحبة لما دخلت عليه ولذا قال مع الإضاءة (كُلَّما) ومع الاظلام (إِذا) وقول أبي حيان : إن التكرار متى فهم من (كُلَّما) هنا لزم منه التكرار في «إذا» إذ الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام ومتى وجد «ذا» فقد ذا فلزم من تكرار وجود «ذا» تكرار عدم