دفعه وذكر ـ سبحانه ـ الرب ليشير إلى أن الموجب القريب للعبادة هي نعمة التربية ، وإن كانت عبادة الكاملين لذاته تعالى من غير واسطة أصلا سوى أنه هو هو فسبحانه من إله ما أعظمه ومن رب ما أكرمه (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الموصول صفة مادحة للرب ، وفيها أيضا تعليل العبادة أو الربوبية على ما قيل ، فإن كان الخطاب في ربكم شاملا للفرق الثلاث فذاك وإن خص بالمشركين وأريد بالرب ما تعورف بينهم من إطلاقه على غيره تعالى احتمل أن تكون مقيدة إن حملت الإضافة على الجنس وموضحة إن حملت على العهد ، ولا يبعد على هذا أن تكون مادحة لأن المطلق يتبادر منه رب الأرباب إلا أن جعلها للتقييد والتوضيح أظهر بناء على ما كانوا فيه وتعريضا بما كانوا عليه ولأنه الأصل فلا يترك إلا بدليل ، والخلق الاختراع بلا مثال ويكون بمعنى التقدير وعلى الأول لا يتصف به سواه سبحانه ، وعلى الثاني قد يتصف به غيره ومنه (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) [المائدة : ١١٠] وقول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبع |
|
ض القوم يخلق ثم لا يفري |
ومن العجب أن أبا عبد الله البصري ـ أستاذ القاضي عبد الجبار ـ قال : إطلاق الخالق عليه تعالى محال لأن التقدير يستدعي الفكر والحسبان وهي مسألة خلافية بينه وبين الله تعالى القائل : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ) [الحشر : ٢٤] وبقول الله تعالى أقول ، والموصول الثاني عطف على المنصوب في (خَلَقَكُمْ) و ـ قبل ـ ظرف زمان بكثرة ومكان بقلة ويتجوز بها عن التقدم بالشرف والرتبة ، والخطاب إن شمل المؤمنين وغيرهم فالمراد ـ بالذين قبلهم ـ من تقدمهم في الوجود ومن هو موجود وهو أعلى منزلة منهم وفي هذا تذكير لكمال جلال الله تعالى وربوبيته وفيه من تأكيد أمر العبادة ما لا يخفى ، وقدم سبحانه التنبيه على ـ خلقهم ـ وإن كان متأخرا بالزمان لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة فتنبيههم أولا على أنفسهم آكد وأهم ، وأتى ـ بالخلق ـ صلة والصلات لا بد من كونها معلومة الانتساب عند المخاطب ، ولذا يعرف الموصول عنده بما فيها من العهد ، واشترطت خبريتها إشارة إلى أنه ليس في المخاطبين من ينكر كون الخالق هو الله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ) [الزخرف : ٨٧] أو (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥ ، الزمر : ٣٨] وانفهام ذلك من الوصف ـ بناء على ما قالوا ـ الأخبار بعد العلم بها أوصاف الأوصاف قبل العلم بها أخبار مما قاله بعض المحققين وإن كان هناك من لا يعلم أن الله تعالى خالقه وخالق من قبله احتيج إلى ادعاء التغليب أو تنزيل غير العالم منزلة العالم لوضوح البراهين فتخرج الجملة مخرج المعلوم على خلاف مقتضى الظاهر ، وقرأ ابن السميقع ـ وخلق من قبلكم ـ وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ـ والذين من قبلكم ـ بفتح الميم ، واستشكل لتوالي موصولين والصلة واحدة وخرجت على جعل ـ من ـ تأكيدا للذين فلا يحتاج إلى صلة نحو قوله :
من النفر اللائي الذين إذا هم |
|
تهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا |
واعترض بأن الحرف لا يؤكد بدون إعادة ما اتصل به فالموصول أولى بذلك إذ يكاد أن يكون تأكيده كتأكيد بعض الاسم ـ فمن ـ حينئذ موصولة أو موصوفة وهي خبر مبتدأ مقدر وما بعدها صلة أو صفة وهي مع المقدر صلة الموصول الأول ويكون على أحد الاحتمالين نظير. فقلت وأنكرت الوجوه هم هم. وتخريج البيت على نحو هذا ، وقيل : (مِنْ) زائدة ، وقد أجاز بعض النحاة زيادة الأسماء ، والكسائي زيادة (مِنْ) الموصولة ، و ـ جعل ـ من ذلك.
وكفى بنا فضلا على من غيرنا |
|
حب النبي محمد إيانا |