محيص في ظاهر آية التحدي من تجريد الخطاب وتخصيصه بالكفرة مع ما فيه من رباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن حيز الانتظام في سلك الكفرة اللئام والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي فتأمل.
وقد تضمنت هذه الآيات من بدائع الصنعة ودقائق الحكمة وظهور البراهين ما اقتضى أنه تعالى المنفرد بالإيجاد المستحق للعبادة دون غيره من الأنداد التي لا تخلق ولا ترزق وليس لها نفع ولا ضر (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] ومن باب الإشارة أنه تعالى مثل البدن بالأرض ، والنفس بالسماء ، والعقل بالماء ، وما أفاض على القوابل من الفضائل العلمية والعملية المحصلة بواسطة استعمال العقل والحس ، وازدواج القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بإذن الفاعل المختار ، وقد يقال : إنه تعالى لما امتن عليهم بأنه سبحانه ـ خلقهم والذين من قبلهم ـ ذكر ما يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الرجل ، وهي أيضا تسمى فراشا ، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها ، وضرب الماء النازل من السماء مثلا للنطفة التي تنزل من صلب الأب وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات مثلا للولد الذي يخرج من الأم ، كل ذلك ليؤنس عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها ومخرج أشجارها من بطن الأرض ، فإذا وضح ذلك لهم أفردوه بالألوهية وخصوه بالعبادة وحصلت لهم الهداية :
تأمل في رياض الأرض وانظر |
|
إلى آثار ما صنع المليك |
عيون من لجين شاخصات |
|
على أهدابها ذهب سبيك |
على قضب الزبرجد شاهدات |
|
بأن الله ليس له شريك |
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) لما قرر سبحانه أمر توحيده بأحسن أسلوب عقبه بما يدل على تصديق رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، والتوحيد والتصديق توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر ، فالآية وإن سيقت لبيان الإعجاز إلا أن الغرض منه إثبات النبوة ، وفي التعقيب إشارة إلى الرد على التعليمية الذين جعلوا معرفة الله تعالى مستفادة من معرفة الرسول ، والحشوية القائلين بعدم حصول معرفته سبحانه إلا من القرآن والأخبار ، والعطف إما على قوله تعالى : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أو على (فَلا تَجْعَلُوا) وتوجيه الربط بأنه لما أوجب سبحانه وتعالى العبادة ونفى الشرك ـ بإزاء تلك الآيات والانقياد لها لا يمكن بدون التصديق بأنها من عنده سبحانه ـ أرشدهم بما يوجب هذا العلم ، ولذا لم يقل جل شأنه ـ وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا ـ غير وجيه إذ يصير عليه البرهان العقلي سميعا ولو أريد ذلك لكفى ـ اعبدوا ، ولا تشركوا ـ من دون تفصيل الأدلة الأنفسية والآفاقية ، والظاهر أن الخطاب هنا للكفار وهو المروي عن الحسن ، وقيل لليهود : لما أن سبب النزول ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أنهم قالوا هذا الذي يأتينا به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لا يشبه الوحي (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) [هود : ١١٠] وقيل : هو على نحو الخطاب في (اعْبُدُوا) وكلمة (إِنْ) إما للتوبيخ على الارتياب وتصوير أنه مما لا ينبغي أن يثبت إلا على سبيل الفرض لاشتمال المقام على ما يزيله ، أو لتغليب ـ من لا ـ قطع بارتيابهم على من سواهم ، أو لأن البعض لما كان مرتابا والبعض غير مرتاب جعل الجميع ـ كأنه لا قطع بارتيابهم ولا بعدمه ـ وجعلها بمعنى إذ كما ادعاه بعض المفسرين ـ خلاف مذهب المحققين ـ وإيراد كلمة ـ كان ـ لإبقاء معنى المضي فإنها لتمحضها للزمان لا تقلبها ـ إن ـ إلى معنى الاستقبال ـ كما ذهب إليه المبرد وموافقوه ـ والجمهور على أنها كسائر الأفعال الماضية ،