للقرب ولأن ـ قطع ما أمر الله تعالى بوصله ـ أبلغ من قطع وصل ما أمر الله تعالى به نفسه ، واحتمال الرفع بتقدير هو ـ أو النصب بالبدلية من محل المجرور أو بنزع الخافض أو أنه مفعول لأجله ـ أي لأن ـ أو كراهية ـ أن ليس بشيء كما لا يخفى.
(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) إفسادهم باستدعائهم إلى الكفر والترغيب فيه وحمل الناس عليه أو بإخافتهم السبل وقطعهم الطرق على من يريد الهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم ـ أو بأنهم يرتكبون كل معصية يتعدى ضررها ويطير في الآفاق شررها ـ ولعل هذا أولى وذكر في (الْأَرْضِ) إشارة إلى أن المراد فساد يتعدى دون ما يقف عليهم. و (أُولئِكَ) إشارة إلى (الْفاسِقِينَ) باعتبار ما فصل من صفاتهم القبيحة ، وفيه رمز إلى أنهم في المرتبة البعيدة من الذم وحصر ـ الخاسرين ـ عليهم باعتبار كما لهم في الخسران حيث أهملوا العقل عن النظر ولم يقتنصوا المعرفة المفيدة للحياة الأبدية والمسرة السرمدية ، واشتروا النقض بالوفاء ، والفساد بالصلاح ، والقطعية بالصلة ، والثواب بالعقاب فضاع منهم الطلبتان ـ رأس المال والربح ـ وحصل لهم الضرر الجسيم وهذا هو الخسران العظيم. وفي الآية ترشيح (١) للاستعارة المقدرة التي تتضمنها الآيات السابقة فافهم.
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) التفات إلى خطاب أولئك بعد أن عدد قبائحهم المستدعية لمزيد سخطه تعالى عليهم والإنكار إذا وجه إلى المخاطب كان أبلغ من توجيهه إلى الغائب وأردع له لجواز أن لا يصله. و (كَيْفَ) اسم ما ظرف ـ وعزي إلى سيبويه ـ فمحلها نصب دائما ، أو غير ظرف ـ وعزي إلى الأخفش ـ فمحلها رفع مع المبتدأ ونصب مع غيره ، وادعى ابن مالك أن أحدا لم يقل بظرفيتها إذ ليست زمانا ولا مكانا لكن لكونها تفسر بقولك على أي حال أطلق اسم الظرف عليها مجازا ، واستحسنه ابن هشام ودخول الجر عليها شاذ. وأكثر ما تستعمل استفهاما والشرط بها قليل والجزم غير مسموع ، وأجازه قياسا ـ الكوفيون وقطرب ، والبدل منها أو الجواب إن كانت مع فعل مستغن منصوب ومع ما لا يستغنى مرفوع إن كان مبتدأ ومنصوب إن كان ناسخا. وزعم ابن موهب أنها تأتي عاطفة وليس بشيء ، وهي هنا للاستخبار منضما إليه الإنكار والتعجيب لكفرهم بإنكار الحال الذي له مزيد اختصاص بها وهي العلم بالصانع والجهل به ، ألا يرى أنه ينقسم باعتبارهما فيقال : كافر معاند وكافر جاهل؟ فالمعنى أفي حال العلم تكفرون أم في حال الجهل وأنتم عالمون بهذه القصة؟ وهو يستلزم العلم بصانع موصوف بصفات الكمال منزه عن النقصان ، وهو صارف قوي عن الكفر ، وصدور الفعل عن القادر مع الصارف القوي مظنة تعجيب وتوبيخ ، وفيه إيذان بأن كفرهم عن عناد وهو أبلغ في الذم. وفيه من المبالغة أيضا ما ليس في «أتكفرون» لأن الإنكار الذي هو نفي قد توجه للحال التي لا تنفك. ويلزم من نفيها نفي صاحبها بطريق البرهان ، وإن شئت عممت الحال. وإنكار أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها مع أن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال يستدعي إنكار وجود الكفر بذلك الطريق ، ولا يرد أن الاستخبار محال على ـ اللطيف الخبير عز شأنه ـ لأنه إما أن يكون بمعنى طلب الخبر فلا نسلم المحالية إذ قد يكون لتنبيه المخاطب وتوبيخه ولا يقتضي جهل المستخبر ولا يلزم من ضم الإنكار والتعجيب إليه ـ وهما من المعاني المجازية للاستفهام ـ الجمع بين الحقيقة والمجاز إن كان الاستخبار حقيقة للصيغة ، وبين معنيين مجازيين إن كان مجازا لأن الانفهام بطريق الاستتباع واللزوم لا من حلق الوسط ، أو أنه تجوّز على تجوّز لشهرة الاستفهام في معنى الاستخبار حتى كأنه حقيقة فيه ، وإما أن يكون بمعنى الاستفهام فنقول : لا قدح في صدوره ممن
__________________
(١) لأن الخسران من لوازم التجارة ، والآيات تتضمن استبدال الأمور المذكورة بنقائضها المستعار له البيع والشراء ا ه منه.