آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٣٨)
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) معطوف على قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ) وترك الحرف إما لكونه كالنتيجة له أو للتنبيه على الاستقلال في إفادة ما أفاده ، وذكر أنه بيان نعمة أخرى مترتبة على الأولى ، وأريد بترتبها أن الانتفاع بها يتوقف عليها فإن النعمة إنما تسمى نعمة من حيث الانتفاع بها ، و (هُوَ) لغير المتكلم والمخاطب ، وفيه لغات : تخفيف الواو مفتوحة ، وحذفها في الشعر ، وتشديدها لهمدان ، وتسكينها لأسد وقيس ، و (هُوَ) عند أهل الله تعالى اسم من أسمائه تعالى ينبئ عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة ، و (هُوَ) اسم مركب من حرفين الهاء والواو ، و ـ الهاء ـ أصل ، و ـ الواو ـ زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع فليس في الحقيقة إلا حرف واحد دال على الواحد الفرد الذي لا موجود سواه وكل شيء هالك إلا وجهه ، ولمزيد ما فيه من الأسرار اتخذه الأجلّة مدارا لذكرهم وسراجا لسرهم ، وهو جار مع الأنفاس ، ومسماه غائب عن الحدس والقياس ، وفي «جعل» الضمير مبتدأ والموصول خبرا من الدلالة على الجلالة ما لا يخفى ، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لتعجيل المسرة واللام للتعليل والانتفاع ـ أي خلق لأجلكم جميع ما في الأرض ـ لتنتفعوا به في أمور دنياكم بالذات أو بالواسطة وفي أمور دينكم بالاستدلال والاعتبار ، واستدل كثير من أهل السنة ـ الحنفية ، والشافعية ـ بالآية على إباحة الأشياء النافعة قبل ورود الشرع ، وعليه أكثر المعتزلة ، واختاره الإمام في المحصول ، والبيضاوي في المنهاج.
واعترض بأن اللام تجيء لغير النفع ك (إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] وأجيب بأنها مجاز لاتفاق أئمة اللغة على أنها للملك ومعناه الاختصاص النافع ، وبأن المراد النفع بالاستدلال ، وأجيب بأن التخصيص خلاف الظاهر مع أن ذلك حاصل لكل مكلف من نفسه فيحمل على غيره ، وذهب قوم إلى أن الأصل في الأشياء قبل الحظر ، وقال قوم بالوقف لتعارض الأدلة عندهم ، واستدلت الإباحية بالآية على مدعاهم قائلين إنها تدل على أن ما في الأرض جميعا خلق للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلا ، ويرده أنها تدل على أن الكل للكل ، ولا ينافي اختصاص البعض بالبعض لموجب ، فهناك شبه التوزيع ، والتعيين يستفاد من دليل منفصل ، ولا يلزم اختصاص كل شخص بشيء واحد كما ظنه الساليكوتي ، و (ما) تعم جميع ما في الأرض لأنفسها إذ لا يكون الشيء ظرفا لنفسه إلا أن يراد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو ويكفي في التحدر العرش المحيط ، أو تجعل الجهة اعتبارية ، نعم قيل : تعم كل جزء من أجزاء الأرض ـ فإنه من جملة ضروراتها ـ ما فيها ضرورة وجود الجزء في الكل والمغايرة اعتبارية والقول : بأن الكلام على تقدير معطوف أي خلق ما في الأرض والأرض ـ لا أرضى به ، وبعضهم لم يتكلف شيئا من ذلك ، واستغنى بتقدم الامتنان بالأرض في قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) [البقرة : ٢٢] و (جَمِيعاً) حال مؤكدة من كلمة «ما» ولا دلالة لها كما ذكره البعض على الاجتماع الزماني وهذا بخلاف معا ، وجعله حالا من ضمير (لَكُمْ) يضعفه السياق لأنه لتعداد النعم دون المنعم عليه مع أن مقام الامتنان يناسبه المبالغة في كثرة النعم ، ولاعتبار المبالغة لم يجعلوه حالا من الأرض أيضا (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي علا إليها وارتفع من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد ـ قاله الربيع ـ أو قصد إليها بإرادته قصدا سويا بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من قولهم : استوى إليه ـ كالسهم المرسل ـ إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء ـ قاله الفراء ـ وقيل : استولى وملك كما في قوله :
فلما «علونا واستوينا عليهم» |
|
تركناهم صرعى لنسر وكاسر |