إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعهم بعد إن لم يكن لهم شرائع وقد استدل المعتزلة وطوائف من المبتدعة بهذه الآية على استحالة رؤية البارئ سبحانه وتعالى لأنها لو كانت ممكنة لما أخذتهم الصاعقة بطلبها ، والجواب أن أخذ الصاعقة لهم ليس لمجرد الطلب ولكن لما انضم إليه من التعنت وفرط العناد كما يدل عليه مساق الكلام حيث علقوا الإيمان بها ، ويجوز أيضا أن يكون ذلك الأخذ لكفرهم بإعطاء الله تعالى التوراة لموسى عليهالسلام وكلامه إياه أو نبوته لا لطلبهم ، وقد يقال : إنهم لما لم يكونوا متأهلين لرؤية الحق في هذه النشأة كان طلبهم لها ظلما فعوقبوا بما عوقبوا ، وليس في ذلك دليل على امتناعها مطلقا في الدنيا والآخرة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذه المسألة بوجه لا غبار عليه (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) عطف على بعثناكم ، وقيل : على قلتم ، والأول أظهر للقرب والاشتراك في المسند إليه مع التناسب في المسندين في كون كل منهما نعمة بخلاف (قُلْتُمْ) فإنه تمهيد لها ، وإفادته تأخير التظليل والإنزال عن واقعة طلبهم الرؤية ، وعلى التقديرين لا بد لترك كلمة إذ هاهنا من نكتة ، ولعلها الاكتفاء بالدلالة العقلية على كون كل منهما نعمة مستقلة مع التحرز عن تكرارها في (ظَلَّلْنا) و (أَنْزَلْنا) و (الْغَمامَ) اسم جنس كحمامة وحمام ، وهو السحاب ، وقيل : ما ابيض منه ، وقال مجاهد : هو أبرد من السحاب وأرق ، وسمي غماما لأنه يغم وجه السماء ويستره. ومنه الغم والغمم ، وهل كان غماما حقيقة أو شيئا يشبه وسمي به؟ قولان ، والمشهور الأول وهو مفعول (ظَلَّلْنا) على إسقاط حرف الجر كما تقول : ظللت على فلان بالرداء أو بلا إسقاط ، والمعنى جعلنا الغمام عليكم ظلة ، والظاهر أن الخطاب لجميعهم. فقد روي أنهم لما أمروا بقتال الجبارين وامتنعوا وقالوا (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) [المائدة : ٢٤] ابتلاهم الله تعالى بالتيه بين الشام ومصر أربعين سنة وشكوا حر الشمس فلطف الله تعالى بهم بإظلال الغمام ـ وإنزال المنّ والسلوى ـ وقيل : لما خرجوا من البحر وقعوا بأرض بيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل فشكوا الحر فوقوا به ، وقيل : الذين ظللوا بالغمام بعض بني إسرائيل وكان الله تعالى قد أجرى العادة فيهم أن من عبد ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنبا أظلته الغمامة وكان فيهم جماعة يسمون أصحاب غمائم فامتن الله تعالى عليهم لكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة والنعمة الباهرة (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) المنّ اسم جنس لا واحد له من لفظه والمشهور أنه الترنجبين وهو شيء يشبه الصمغ حلو مع شيء من الحموضة كان ينزل عليهم كالطل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس في كل يوم إلا يوم السبت وكان كل شخص مأمورا بأن يأخذ قدر صاع كل يوم أو ما يكفيه يوما وليلة ولا يدخر إلا يوم الجمعة فإن ادخار حصة السبت كان مباحا فيه. وعن وهب أنه الخبز الرقاق ، وقيل : المراد به جميع ما من الله تعالى به عليهم في التيه وجاءهم عفوا بلا تعب ، وإليه ذهب الزجاج ويؤيده قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «الكمأة من المنّ الذي منّ الله تعالى به على بني إسرائيل» و (السَّلْوى) اسم جنس أيضا واحدها سلواة كما قاله الخليل وليست الألف فيها للتأنيث وإلا لما أنثت بالهاء في قوله. كما انتفض السلواة من بلل القطر وقال الكسائي : (السَّلْوى) واحدة وجمعها سلاوى ، وعند الأخفش الجمع والواحد بلفظ واحد ، وقيل : جمع لا واحد له من لفظه وهو طائر يشبه السماني أو هو السماني بعينها وكانت تأتيهم من جهة السماء بكرة وعشيا أو متى أحبوا فيختارون منها السمين ويتركون منها الهزيل ، وقيل : إن ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي ، وفي رواية كانت تنزل عليهم مطبوخة ومشوية ـ وسبحان من يقول للشيء كن فيكون ـ وذكر السدوسي أن السلوى هو العسل بلغة كنانة ويؤيده ، قول الهذلي :
وقاسمتها بالله جهرا لأنتم |
|
ألذ من (السلوى) إذا ما نشورها |
وقول ابن عطية ـ إنه غلط ـ غلط ، واشتقاقها من السلوة لأنها لطيبها تسلي عن غيرها وعطفها على بعض وجوه