بإزالة اليبوسة عن أجزائه وخلق الرطوبة فيها. والله تعالى على كل شيء قدير ، وحظ العارف من الآية أن يعرف الروح الإنسانية وصفاتها في عالم القلب بمثابة موسى وقومه وهو مستسق ربه لإروائها بماء الحكمة والمعرفة وهو مأمور بضرب عصا ـ لا إله إلا الله ـ ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نورا عند استيلاء ظلمات النفس ، وقد حملت من حضرة العزة على حجر القلب الذي هو كالحجارة أو أشد قسوة (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) من مياه الحكمة لأن كلمة ـ لا إله إلا الله ـ اثنا عشرة حرفا فانفجر من كل حرف عين قد علم كل سبط من أسباط صفات الإنسان وهي اثنا عشر سبطا من الحواس (١) الظاهرة والباطنة ، واثنان من القلب والنفس ، ولكل واحد منهم مشرب من عين جرت من حرف من حروف الكلمة ، و (قَدْ عَلِمَ) مشربه ومشرب كل واحد حيث ساقه رائده وقاده قائده فمن مشرب عذب فرات ، ومشرب ملح أجاج ، والنفوس ترد مناهل التقى والطاعات. والأرواح تشرب من زلال الكشوف والمشاهدات ، والأسرار تروى من عيون الحقائق بكأس تجلي الصفات عن ساقي (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) [الإنسان : ٢١] للاضمحلال في حقيقة الذات (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) بأمره ورضاه (وَلا تَعْثَوْا) في هذا القالب (مُفْسِدِينَ) بترك الأمر واختيار الوزر وبيع الدين بالدنيا وإيثار الأولى على العقبى وتقديمهما على المولى (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) الظاهر أنه داخل في تعداد النعم وتفصيلها وهو إجابة سؤالهم بقوله تعالى : (اهْبِطُوا) إلخ مع استحقاقهم كمال السخط لأنهم كفروا نعمة إنزال الطعام اللذيذ عليهم وهم في التيه من غير كدّ وتعب حيث سألوا ب (لَنْ نَصْبِرَ) فإنه يدل على كراهيتهم إياه إذ الصبر حبس النفس في المضيق ، ولذا أنكر عليه بقوله تعالى : (أَتَسْتَبْدِلُونَ) إلخ ، فالآية في الأسلوب مثل قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) إلخ ، حيث عاندوا بعد سماع الكلام وأهلكوا ، ثم أفاض عليهم نعمة الحياة ، قال مولانا الساليكوتي ـ ومن هذا ظهر ضعف ما قال الإمام الرازي ـ لو كان سؤالهم معصية لما أجابهم ، لأن الإجابة إلى المعصية معصية ـ وهي غير جائزة على الأنبياء ـ وإن قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أمر إباحة لا إيجاب ، فلا يكون سؤالهم غير ذلك الطعام معصية ، ووصف الطعام بواحد وإن كانا طعامين (الْمَنَّ وَالسَّلْوى) اللذين رزقوهما في التيه ، إما باعتبار كونه على نهج واحد كما يقال : طعام مائدة الأمير واحد ـ ولو كان ألوانا شتى ـ بمعنى أنه لا يتبدل ولا يختلف بحسب الأوقات ، أو باعتبار كونه ضربا واحدا لأن (الْمَنَّ وَالسَّلْوى) من طعام أهل التلذذ والسرف ، وكأن القوم كانوا فلاحة فما أرادوا إلا ما ألفوه ، وقيل : إنهم كانوا يطبخونهما معا فيصير طعاما واحدا ، والقول بأن هذا القول كان قبل نزول (السَّلْوى) نازل من القول ، وأهون منه القول بأنهم أرادوا بالطعام الواحد (السَّلْوى) لأن (الْمَنَ) كان شرابا ، أو شيئا يتحلون به ، فلم يعدوه طعاما آخر ، وإلا نزل القول بأنه عبر بالواحد عن الاثنين كما عبر بالاثنين عن الواحد في نحو (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] وإنما يخرج من أحدهما ـ وهو الملح دون العذب ـ (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) أي سله لأجلنا ـ بدعائك إياه ـ بأن يخرج لنا كذا وكذا ـ والفاء ـ لسببية عدم الصبر للدعاء ، ولغة بني عامر «فادع» ـ بكسر العين ـ جعلوا ـ دعا من ذوات الياء ـ كرمى ، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم ، لأن دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقرب للإجابة من دعاء غيرهم ، على أن دعاء الغير للغير مطلقا أقرب إليها ـ فما ظنك بدعاء الأنبياء لأممهم؟ ـ ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم لعمر رضي الله تعالى عنه : «أشركنا في دعائك» وفي الأثر «ادعوني بألسنة لم تعصوني فيها» وحملت على ألسنة الغير ، والتعرض لعنوان الربوبية لتمهيد مبادئ الإجابة ، وقالوا : (رَبَّكَ) ولم يقولوا : ربنا ، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم
__________________
(١) قوله : من الحواس إلخ كذا بخط ا ه مصححه.