من مناجاته وتكليمه وإيتائه التوراة ، فكأنهم قالوا : ادع لنا المحسن إليك بما لم يحسن به إلينا ، فكما أحسن إليك من قبل نرجو أن يحسن إليك في إجابة دعائك.
(يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها) المراد ـ بالإخراج ـ المعنى المجازي اللازم للمعنى الحقيقي ، وهو الإظهار بطريق الإيجاد ـ لا بطريق إزالة الخفاء ـ والحمل على المعنى الحقيقي يقتضي مخرجا عنه ، وما يصلح له هاهنا هو (الْأَرْضُ) وبتقديره يصير الكلام سخيفا ، و (يُخْرِجْ) مجزوم لأنه جواب الأمر ، وجزمه ـ بلام الطلب ـ محذوفة لا يجوز عند البصريين ، و (مِنْ) الأولى تبعيضية أي مأكولا بعض ما (تُنْبِتُ) وادعى الأخفش زيادتها ـ وليس بشيء ـ وما موصولة والعائد محذوف ، أي تنبته ، وجعلها مصدرية لم يجوزه أبو البقاء ـ لأن المقدر جوهر ـ ونسبة ـ الإنبات ـ إلى (الْأَرْضُ) مجاز من باب النسبة إلى القابل. وقد أودع الله تعالى في الطبقة الطينية من الأرض ـ أو فيها ـ قوة قابلة لذلك ، وكون القوة القابلة مودعة في الحب دون التراب ربما يفضي إلى القول بقدم الحب بالنوع ، و (مِنْ) الثانية بيانية ، فالظرف مستقر واقع موقع الحال ، أي كائنا من (بَقْلِها). وقال أبو حيان : تبعيضية واقعة موقع البدل من كلمة ما فالظرف لغو متعلق (يُخْرِجْ) وعلى التقديرين ـ كما قال الساليكوتي ـ يفيد أن المطلوب إخراج بعض هؤلاء ، ولو جعل بيانا لما أفاده (مِنْ) التبعيضية ـ كما قاله المولى عصام الدين ـ لخلا الكلام عن الإفادة المذكورة ، وأوهم أن المطلوب إخراج جميع هؤلاء لعدم العهد ـ والبقل ـ جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والإنعام ، والمراد به هنا أطايب البقول التي يأكلها الناس ـ والقثاء ـ هو هذا المعروف ، وقال الخليل : هو الخيار ، وقرأ يحيى بن وثاب وغيره ـ بضم القاف ـ وهو لغة ـ والفوم ـ الحنطة ـ وعليه أكثر الناس ـ حتى قال الزجاج : لا خلاف عند أهل اللغة أن ـ الفوم ـ الحنطة ، وسائر الحبوب التي تختبز يلحقها اسم ـ الفوم ـ وقال الكسائي وجماعة : هو الثوم ، وقد أبدلت ـ ثاؤه فاء ـ كما في ـ جدث وجدف ـ وهو بالبصل والعدس أوفق ـ وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ـ ونفس شيخنا ـ عليه الرحمة ـ إليه تميل ، والقول بأنه الخبز يبعده الإنبات من (الْأَرْضُ) وذكره مع البقل وغيره وما في المعالم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن ـ الفوم ـ الخبز يمكن توجيهه بأن معناه أنه يقال عليه ، ووجه ترتيب النظم أنه ذكر أولا ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ـ وهو البقل ـ إذ منه ما هو بارد رطب ـ كالهندبا ـ ومنه ما هو حار يابس ـ كالكرفس والسذاب ـ ومنه ما هو حار وفيه رطوبة ، كالنعناع «وثانيا» ما هو بارد رطب ـ وهو القثاء ـ «وثالثا» ما هو حار يابس ـ وهو الثوم ـ «ورابعا» ما هو بارد يابس ـ وهو العدس ـ «وخامسا» ما هو حار رطب ـ وهو البصل ـ وإذا طبخ صار باردا رطبا عند بعضهم ، أو يقال : إنه ذكر أولا ما يؤكل من غير علاج نار ، وذكر بعده ما يعالج به مع ما ينبغي فيه ذلك ويقبله.
(قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر ، كأنه قيل : فما ذا قال لهم؟ فقيل قال : (أَتَسْتَبْدِلُونَ) إلخ ، والقائل إما الله تعالى على لسان موسى عليهالسلام ، ويرجحه كون المقام مقام تعداد النعم ، أو موسى نفسه ـ وهو الأنسب بسياق النظم ـ والاستفهام للإنكار ، والاستبدال الاعتياض.
«فإن قلت» كونهم لا يصبرون (عَلى طَعامٍ واحِدٍ) افهم طلب ضم ذلك إليه ـ لا استبداله به ـ أجيب بأن قولهم : (لَنْ نَصْبِرَ) يدل على كراهتهم ذلك الطعام ، وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال ، فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها ، وقيل : إنهم طلبوا ذلك ، وخطابهم بهذا إشارة إلى أنه تعالى إذا أعطاهم ما سألوا منع عنهم (المن والسلوى) فلا يجتمعان ، وقيل : الاستبدال في المعدة ـ وهو كما ترى ـ وقرأ أبيّ ـ أتبدلون ـ وهو مجاز ، لأن التبديل ليس لهم ـ إنما ذلك إلى الله تعالى ـ لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدلين ، وكان المعنى أتسألون