تبديل الذي إلخ ، و (الَّذِي) مفعول (تَسْتَبْدِلُونَ) وهو الحاصل ، و (الَّذِي) دخلت عليه الباء هو الزائل ، وهو (أَدْنى) صلة (الَّذِي) وهو هنا واجب الإثبات ـ عند البصريين ـ إذ لا طول ، و (أَدْنى) إما من الدنو أو مقلوب من الدون ، وهو على الثاني ظاهر ، وعلى الأول مجاز استعير فيه الدنو بمعنى القرب المكاني للخسة كما استعير البعد للشرف ، فقيل : بعيد المحل بعيد الهمة ، ويحتمل أن يكون مهموزا من الدناءة ، وأبدلت فيه ـ الهمزة ألفا ـ ويؤيده قراءة زهير والكسائي «أدنأ» بالهمزة ، وأريد (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)(الْمَنَّ وَالسَّلْوى) ومعنى خيرية هذا المأكول بالنسبة إلى ذلك غلاء قيمته وطيب لذته ، والنفع الجليل في تناوله ، وعدم الكلفة في تحصيله ، وخلوه عن الشبهة في حله (اهْبِطُوا مِصْراً) جملة محكية بالقول كالأولى ، وإنما لم يعطف إحداهما على الأخرى في المحكي لأن الأولى خبر معنى ، وهذه ليست كذلك ، ولكونها كالمبينة لها فإن الإهباط طريق الاستبدال ، هذا إذا جعل الجملتان من كلام الله تعالى أو كلام موسى ، وإن جعل إحداهما من موسى والأخرى من الله تعالى ، فوجه الفصل ظاهر ، والوقف على خير كاف «على الأول» وتام «على الثاني» والهبوط يجوز أن يكون مكانيا بأن يكون التيه أرفع من المصر ، وأن يكون رتبيا ، وهو الأنسب بالمقام ، وقرئ (اهْبِطُوا) بضم الهمزة والباء ـ والمصر ـ البلد العظيم وأصله الحد والحاجز بين الشيئين ، قال :
وجاعل الشمس (مصرا) لا خفاء به |
|
بين النهار وبين الليل قد فصلا |
وإطلاقه على البلد لأنه ممصور أي محدود ، وأخذه من مصرت الشاة أمصرها ـ إذا حلبت كل شيء في ضرعها ـ بعيد ، وحكي عن أشهب أنه قال : قال لي مالك : هي مصر قريتك مسكن فرعون ـ فهو إذا علم ـ وأسماء المواضع قد تعتبر من حيث المكانية فتذكر ، وقد تعتبر من حيث الأرضية فتؤنث ، فهو ـ إن جعل علما ـ فإما باعتبار كونه بلدة ، فالصرف مع العلمية ، والتأنيث لسكون الوسط ، وإما باعتبار كونه ـ بلدا ـ فالصرف على بابه ، إذ الفرعية الواحدة لا تكفي في منعه ، ويؤيد ما قاله الإمام مالك رضي الله تعالى عنه أنه في مصحف ابن مسعود «مصر» بلا ـ ألف بعد الراء ـ ويبعده أن الظاهر من التنوين التنكير ، وأن قوله تعالى : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) [المائدة : ٢١] يعني الشام التي كتب الله تعالى لكم للوجوب ـ كما يدل عليه عطف النهي ـ وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى ، وأن يكون الأمر بالهبوط مقصورا على بلاد التيه ـ وهو ما بين بيت المقدس إلى قنسرين ـ ومن الناس من جعل مصر معرب ـ مصرائيم ـ كاسرائيل اسم لأحد أولاد نوحعليهالسلام ـ وهو أول من اختطها ـ فسميت باسمه ، وإنما جاز الصرف حينئذ لعدم الاعتداد بالعجمة لوجود التعريب والتصرف فيه فافهم وتدبر (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) تعليل للأمر بالهبوط ، وفي البحر أنها جواب للأمر ـ وكما يجاب بالفعل يجاب بالجملة ـ وفي ذلك محذوفان ما يربط الجملة بما قبلها ، والضمير العائد على (ما) والتقدير ، فإن لكم فيها ما سألتموه ، والتعبير عن الأشياء المسئولة ب (ما) للاستهجان بذكرها ، وقرأ النخعي ويحيى (سَأَلْتُمْ) بكسر السين*.
(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أي جعل ذلك محيطا بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه ، أو ألصق بهم من ضرب الطين على الحائط ففي الكلام استعارة بالكناية حيث شبه ذلك بالقبة أو بالطين ، و (ضُرِبَتْ) استعارة تبعية تحقيقية لمعنى الإحاطة والشمول أو اللزوم واللصوق بهم ، وعلى الوجهين فالكلام كناية عن كونهم أذلاء متصاغرين ، وذلك بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدونها عن يد وهم صاغرون ، وبما ألزموه من إظهار الزي ليعلم أنهم يهود ولا يلتبسوا بالمسلمين وبما طبعوا عليه من فقر النفس وشحها فلا ترى ملة من الملل أحرص منهم ، وبما تعودوا عليه من إظهار سوء الحال مخافة أن تضاعف عليهم الجزية إلى غير ذلك مما تراه في اليهود اليوم ، وهذا الضرب مجازاة لهم