على كفران تلك النعمة ، وبهذا ارتبطت الآية بما قبلها ، وإنما أورد ضمير الغائب للإشارة إلى أن ذلك راجع إلى جميع اليهود ، وشامل للمخاطبين ، بقوله تعالى : (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة فليس من قبيل الالتفات على ما وهم (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي نزلوا وتمكنوا بما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا ، أو بما تحقق لهم من العذاب في العقبى ؛ أو بما كتب عليهم من المكاره فيهما ـ أو رجعوا بغضب ـ أي صار عليهم ، ولذا لم يحتج إلى اعتبار المرجوع إليه ، أو صاروا أحقاء به ، أو استحقوا العذاب بسببه ـ وهو بعيد ـ وأصل ـ البواء ـ بالفتح والضم مساواة الأجزاء ثم استعمل في كل مساواة فيقال : هو بواء فلان أي كفؤه ، ومنه بؤ ـ لشسع نعل كليب ـ وحديث «فليتبوأ مقعده من النار» وفي وصف الغضب بكونه من الله تعالى تعظيم لشأنه بعد تعظيم وتفخيم بعد تفخيم*
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) أشار بذلك إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم ، وإنما بعّده لبعد بعضه حتى لو كان إشارة إلى البوء لم يكن على لفظ البعيد ، أو للإشارة إلى أنهم أدركتهم هذه الأمور مع بعدهم عنها لكونهم أهل الكتاب. أو للإيماء إلى بعدها في الفظاعة ، والباء للسببية وهي داخلة على المصدر المؤول ولم يعبر به ، وعبر بما عبر تنبيها على تجدد الكفر والقتل منهم حينا بعد حين واستمرارهم عليهما فيما مضى ، أو لاستحضار قبيح صنعهم و «الآيات» إما المعجزات مطلقا أو التسع التي أتى بها موسى عليهالسلام أو ما جاء به من التسع وغيرها ، أو آيات الكتب المتلوة مطلقا ، أو التوراة أو آيات منها كالآيات التي فيها صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. أو التي فيها الرجم أو القرآن ، وفي إضافة الآيات إلى اسمه تعالى زيادة تشنيع عليهم ، وبدأ سبحانه بكفرهم بآياته لأنه أعظم كل عظيم ، وأردفه بقتلهم النبيين لأنه كالمنشأ له ، وأتى بالنبيين الظاهر في القلة دون الأنبياء الظاهر في الكثرة إذ الفرق بين الجمعين إذا كانا نكرتين وأما إذا دخلت عليهما (أل) فيتساويان ـ كما في البحر ـ فلا يرد أنهم قتلوا ثلاثمائة نبي في أول النهار ، وأقاموا سوقهم في آخره ، وقيد القتل بغير الحق مع أن قتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ذلك بغير الحق عندهم إذ لم يكن أحد معتقدا حقية قتل أحد منهم عليهمالسلام ، وإنما حملهم عليه حب الدنيا ، واتباع الهوى ، والغلو في العصيان ، والاعتداء فاللام في الحق على هذا للعهد ، وقيل : الأظهر أنها للجنس ، والمراد بغير حق أصلا إذ لام الجنس المبهم كالنكرة ، ويؤيده ما في آل عمران [٢١] (بغير حق) فيفيد أنه لم يكن حقا باعتقادهم أيضا ويمكن أن يكون فائدة التقييد إظهار معايب صنيعهم فإنه قتل النبي ثم جماعة منهم ثم كونه بغير الحق ، وهذا أوفق بما هو الظاهر من كون المنهي القتل بغير الحق في نفس الأمر سواء كان حقا عند القاتل أو لا إلا أن الاقتصار على القتل بغير الحق عندهم أنسب للتعريض بما هم فيه على ما قيل ، والقول : بأنه يمكن أن يقال ـ لو لم يقيد بغير الحق لأفاد أن من خواص النبوة أنه لو قتل أحدا بغير حق لا يقتص ، ففائدة التقييد أن يكون النظم مفيدا لما هو الحكم الشرعي ـ بعيد كما لا يخفى ، قال بعض المتأخرين : هذا كله إذا كان الغير بمعنى النفي ـ أي بلا حق ، أما إذا كان بمعناه ـ أي بسبب أمر مغاير للحق أي الباطل ـ فالتقييد مفيد لأن قتلهم النبيين بسبب الباطل وحمايته ، وقريب من هذا ما قاله القفال : من أنهم كانوا يقولون : إنهم كاذبون وإن معجزاتهم تمويهات ويقتلونهم بهذا السبب وبأنهم يريدون إبطال ما هم عليه من الحق بزعمهم ، ولعل ذلك غالب أحوالهم وإلا فشعياء ، ويحيى ، وزكريا عليهمالسلام لم يقتلوا لذلك ، وإنما قتل شعياء لأن ملكا من بني إسرائيل لما مات مرج أمر بني إسرائيل ، وتنافسوا الملك ، وقتل بعضهم بعضا فنهاهم عليهالسلام فبغوا عليه وقتلوه ، ويحيى عليهالسلام إنما قتل لقصة تلك الامرأة لعنها الله تعالى ، وكذلك زكريا لأنه لما قتل ابنه انطلق هاربا فأرسل الملك في طلبه غضبا لما حصل لامرأته من قتل ابنه فوجد في جوف شجرة ففلقوا الشجرة معه فلقتين طولا بمنشار ، ثم الظاهر أن الجار والمجرور مما