صفوة الشيء أي خالصه (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح ، والجملة معطوفة على ما قبلها ، وذلك من حيث المعنى دليل مبين لكون ـ الراغب عن ملة إبراهيم سفيها ـ إذ الاصطفاء والعز في الدنيا غاية المطالب الدنيوية ـ والصلاح ـ جامع للكمالات الأخروية ولا مقصد للإنسان الغير ـ السفيه ـ سوى خير الدارين ، وأما من حيث اللفظ فيحتمل أن يكون حالا مقررة لجهة الإنكار ـ واللام لام الابتداء ـ أي أيرغب عن ملته ومعه ما يوجب عكس ذلك ، وهو الظاهر لفظا لعدم الاحتياج إلى تقدير القسم ـ وارتضاه الرضيّ ـ ويحتمل أن يكون عطفا على ما قبله ، أو اعتراضا بين المعطوفين ـ واللام ـ جواب القسم المقدر وهو الظاهر معنى لأن الأصل في الجمل الاستقلال ولإفادة زيادة التأكيد المطلوب في المقام والاشعار بأن المدعى لا يحتاج إلى البيان ، والمقصود مدحه عليهالسلام وإيراد الجملة الأولى ماضوية لمضيها من وقت الاخبار ، والثانية اسمية لعدم تقييدها بالزمان لأن انتظامه في زمرة صالحي أهل الآخرة أمر مستمر في الدارين لا أنه يحدث في الآخرة ، والتأكيد «بأن ، واللام» لما أن الأمور الأخروية خفية عند المخاطبين فحاجتها إلى التأكيد أشد من الأمور التي تشاهد آثارها ، وكلمة (فِي) متعلقة ب (الصَّالِحِينَ) على أن ـ أل ـ فيه للتعريف لا موصولة ليلزم تقديم ب (اصْطَفَيْناهُ) وفي الآية تقديم وتأخير ، أو بمحذوف حالا من المستكن في الوصف بعيد.
(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ظرف ـ لاصطفيناه ـ والمتوسط المعطوف ليس بأجنبي لأنه لتقدير المتعلق المعطوف تأكيده لأن اصطفاءه في الدنيا إنما هو للرسالة وما يتعلق بصلاح الآخرة فلا حاجة إلى أن يجعل اعتراضا أو حالا مقدرة كما قيل به ، أو تعليل له ، أو منصوب ب «اذكر» كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت لتقف على أنه المصطفى الصالح وأنه ما نال ما نال إلا بالمبادرة والانقياد إلى ما أمر به وإخلاص سره حين دعاه ربه ، وجوز جعله ظرفا ل (قالَ) وليس الأمر وما في جوابه على حقيقتهما بل هو تمثيل والمعنى أخطر بباله الدلائل المؤيدة إلى المعرفة ، واستدل بها وأذعن بمدلولاتها إلا أنه سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بالقولين تصويرا لسرعة الانتقال بسرعة الإجابة فهو إشارة إلى استدلاله عليهالسلام بالكوكب والشمس والقمر واطلاعه على أمارات الحدوث على ما يشير إليه كلام الحسن وابن عباس من أن ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ ، ومن ذهب إلى أنه بعد النبوة قال : المراد الأمر بالطاعة والإذعان لجزئيات الأحكام والاستقامة والثبات على التوحيد على حد (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩] ولا يمكن الحمل على الحقيقة أعني إحداث الإسلام والإيمان لأن الأنبياء معصومون عن الكفر قبل النبوة وبعدها ولأنه لا يتصور الوحي والاستنباء قبل الإسلام نعم إذا حمل الإسلام على العمل بالجوارح لا على معنى الإيمان أمكن الحمل على الحقيقة ـ كما قيل به ـ وفي الالتفات مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليه عليهالسلام إظهار لمزيد اللطف به والاعتناء بتربيته ، وإضافة الرب في الجواب إلى (الْعالَمِينَ) للإيذان بكمال قوة إسلامه حيث أتقن حين النظر شمول ربوبيته تعالى للعالمين قاطبة لا لنفسه فقط كما هو المأمور به ظاهرا.
(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) مدح له عليهالسلام بتكميله غيره إثر مدحه بكماله في نفسه ، وفيه توكيد لوجود الرغبة في ملته ، والتوصية التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة سواء كان حالة الاحتضار أو لا وسواء كان ذلك التقدم بالقول أو الدلالة وإن كان الشائع في العرف استعمالها في القول المخصوص حالة الاحتضار وأصلها الوصل من قولهم أرض واصية أي متصلة النبات ، ويقال : وصاه إذا وصله ، وفصاه إذا فصله كأن الموصي يصل فعله بفعل الوصي ، والضمير في (بِها) إما للملة أو لقوله (أَسْلَمْتُ) على تأويل الكلمة أو الجملة ، ويرجح الأول كون المرجح مذكورا صريحا وكذا ترك المضمر إلى المظهر ، وعطف (يَعْقُوبُ) عليه فإن ذلك يدل على أنه شروع في كلام آخر لبيان