قطعي الدلالة فلا يدل على الفرضية ، وما روى مسلم عن عائشة أنها قالت ـ لعمري ما أتم الله تعالى حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته ـ ليس فيه دليل على الفرضية أيضا سلمنا لكنه مذهب لها ، والمسألة اجتهادية فلا تلزم به على أنه معارض بما أخرجه الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي أنه قال : أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالمزدلفة فقلت : «يا رسول الله جئت من جبل طي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال : من صلي معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف ، وقد أدرك عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه ، وقضى تفثه» فأخبر صلى الله تعالى عليه وسلم بتمام حجه ، وليس في السعي بينهما ، ولو كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله ، وقرأ ابن مسعود وأبيّ ـ أن لا يطوف ـ ولا تصلح أن تكون ناصرة للقول الأول لأنها شاذة لا عمل بها مع ما يعارضها ولاحتمال أن «لا» زائدة كما يقتضيه السياق.
(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أي من انقاد انقيادا ـ خيرا أو بخير ، أو آتيا بخير ـ فرضا كان أو نفلا ، وهو عطف على (فَمَنْ حَجَ) إلخ مؤكد أمر الحج والعمرة والطواف تأكيد الحكم الكلي للجزئي ، أو من تبرع تبرعا ـ خيرا ـ أو بخير أو آتيا بخير من حج أو عمرة أو طواف لقرينة المساق ، وعليه تكون الجملة مسوقة لإفادة شرعية التنفل بالأمور الثلاثة ، وفائدة (خَيْراً) على الوجهين مع أن التطوع لا يكون إلا كذلك التنصيص بعموم الحكم بأن من فعل خيرا أي خير كان يثاب عليه ، أو من تبرع تبرعا خيرا أو بخير أو آتيا بخير من السعي فقط بناء على أنه سنة ، والجملة حينئذ تكميل لدفع ما يتوهم من نفي الجناح من الإباحة ، وفائدة القيد التنصيص بخيرية الطواف دفعا لحرج المسلمين. وقرأ ابن مسعود ـ ومن تطوع بخير ـ وحمزة والكسائي ويعقوب ـ يطوع ـ على صيغة المضارع المجزوم لتضمن (مِنْ) معنى الشرط وأصله ـ يتطوع ـ فأدغم (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ) أي مجاز على الطاعة بالثواب وفي التعبير به مبالغة في الإحسان إلى العباد. (عَلِيمٌ). مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم مقادير أعمالهم وكيفياتها فلا ينقص من أجورهم شيئا ، وبهذا ظهر وجه تأخير هذه الصفة عما قبلها ، ومن قال : أتى بالصفتين هاهنا ـ لأن التطوع بالخير يتضمن الفعل والقصد فناسب ذكر الشكر باعتبار الفعل وذكر العلم باعتبار القصد وأخر صفة العلم وإن كانت متقدمة على الشكر كما أن النية متقدمة على الفعل لتواخي رءوس الآي ـ لم يأت بشيء.
وهذه الجملة علة لجواب الشرط المحذوف قائم مقامه كأنه قيل : ومن تطوع خيرا جازاه الله تعالى أو أثابه فإن الله شاكر عليم ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) اخرج جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال : سأل معاذ بن جبل وسعد بن معاذ. وخارجة بن زيد نفرا من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ، وعن قتادة أنها نزلت في الكاتمين من اليهود والنصارى ، وقيل : نزلت في كل من كتم شيئا من أحكام الدين لعموم الحكم للكل فقد روى البخاري وابن ماجة وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : لو لا آية في كتاب الله تعالى ما حدثت أحدا بشيء أبدا ثم تلا هذه الآية ، وأخرج أبو يعلى والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار» والأقرب أنها نزلت في اليهود والحكم عام كما تدل عليه الأخبار وكونها نزلت في اليهود لا يقتضي الخصوص فإن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، فالموصول للاستغراق ويدخل فيه من ذكر دخولا أوليا ، والكتم والكتمان ترك إظهار الشيء قصدا مع مساس الحاجة إليه وتحقق الداعي إلى إظهاره وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه واليهود قاتلهم الله تعالى ارتكبوا كلا الأمرين (ما أَنْزَلْنا) على الأنبياء (مِنَ الْبَيِّناتِ) أي الآيات الواضحة الدالة على الحق ومن ذلك ما أنزلناه على موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام في أمر محمد صلىاللهعليهوسلم.