(وَالْهُدى) عطف على (الْبَيِّناتِ) والمراد به ـ ما يهدي ـ إلى الرشد مطلقا ومنه ـ ما يهدي ـ إلى وجوب اتباعه صلى الله تعالى عليه وسلم والإيمان به وهي الآيات الشاهدة على صدقه عليه الصلاة والسلام ، والعطف باعتبار التغاير في المفهوم كجاءني الآكل فالشارب ، وقيل : إنه عطف على (ما أَنْزَلْنا) إلخ ، والمراد بالأول الأدلة النقلية ، وبالثاني ما يدخل فيه الأدلة العقلية ، أو المراد بالأول التنزيل ، وبالثاني ما يقتضيه من الفوائد ، ولا يخفى أنه تكلف يأبى عنه قرب المعطوف عليه والتبيين الدال على كمال الوضوح في قوله سبحانه : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) أي شرحناه وأظهرناه لهم والظرف متعلق ـ بيكتمون ـ واللام في ـ الناس ـ صلة ـ بينا ـ أو لام الأجل ، والمراد بهم الجنس أو الاستغراق ، وفي تقييد الكتمان بالظرف إشارة إلى شناعة حالهم بأنهم يكتمون ما وضح ـ للناس ـ وإلى عظم الإثم بأنهم يكتمون ما فيه النفع العام (فِي الْكِتابِ) متعلق ـ ببيناه ـ وتعلق جارين بفعل واحد عند اختلاف المعنى مما لا ريب في جوازه ، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله ، والمراد به الجنس ، وقيل : التوراة ، وقيل : هي والإنجيل ، وقيل : القرآن ، والمراد من الناس أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، ومن الناس من حمل ـ البينات ـ على ما في القرآن وعلق (مِنْ بَعْدِ) ب (أَنْزَلْنا) ، وفسر (الْكِتابِ) بالتوراة ـ والكتمان ـ بعدم الاعتراف بالحقية ، ولعل ما ذهبنا إليه أولى من جميع ذلك (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) أي يبعدهم عن رحمته ويذيقهم أليم نقمته والالتفات إلى الغيبة بإظهار اسم الذات لتربية المهابة والإشعار بأن مبدأ صدور اللعن صفة الجلال المغايرة لما هو مبدأ الإنزال والتبيين من صفة الجمال ، ولم يؤت بالفاء في هذه الجملة التي هي خبر الموصول كما أتي به فيما بعد من قوله سبحانه : (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) مع أن الموصول متضمن لمعنى الشرط وقصد السببية في الموضعين ولذا أورد اسم الإشارة الذي تعليق الحكم به كتعليقه بالمشتق ، قيل : لئلا يتوهم أن ـ لعنهم ـ إنما هو بهذا السبب بناء على أن ـ فاء ـ السببية في الأصل لكونه ـ فاء ـ التعقيب يفيد أن حصول المسبب بعد السبب بلا تراخ ، وقد يقصد منه ذلك بمعونة المقام كما في الآية بعد ، وليس كذلك بل له أسباب جمة وبهذا علم أن اسم الإشارة لا يغني عن الفاء لأنه يشعر بالسببية ولا يشعر بالتعقيب الموهم للانحصار بناء على امتناع التوارد.
(وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أي من يتأتى منه اللعن عليهم من الملائكة والثقلين ، فالمراد ـ باللاعنون ـ معناه الحقيقي وليس على حد من ـ قتل قتيلا ـ في المشهور ؛ والاستغراق عرفي أي كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف ، وليس بحقيقي حتى يرد أنه لا يلعنهم كل لاعن في الدنيا ، ويحتاج إلى التخصيص وإنما أعاد الفعل لأن لعنة اللاعنين بمعنى الدعاء عليهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى ، وروى البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد تفسير اللاعنين بدواب الأرض حتى العقارب والخنافس ، ولعل الجمع حينئذ على حد قوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] واستدل بهذه الآية على وجوب إظهار علم الشريعة وحرمة كتمانه لكن اشترطوا لذلك أن لا يخشى العالم على نفسه وأن يكون متعينا وإلا لم يحرم عليه الكتم إلا إن سئل فيتعين عليه الجواب ما لم يكن إثمه أكبر من نفعه قالوا : وفيها دليل أيضا على وجوب قبول خبر الواحد لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله ، وقد يستدل بها على عدم وجوب ذلك على النساء بناء على أنهن لا يدخلن في خطاب الرجال.
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) أي رجعوا عن الكتمان أو عنه وعن سائر ما يجب أن يتاب عنه بناء على أن حذف المعمول يفيد العموم ، وفيه إشارة إلى أن التوبة عن الكتمان فقط لا يوجب صرف اللعن عنهم ما لم يتوبوا عن الجميع فإن للعنهم أسبابا جمة (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا بالتدارك فيما يتعلق بحقوق الحق والخلق ومن ذلك أن يصلحوا قومهم بالإرشاد إلى الإسلام بعد الإضلال وأن يزيلوا الكلام المحرف ويكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف (وَبَيَّنُوا)