للبث باعتبار أن الماء سبب حياة المواشي والدواب ـ والبث ـ فرع الحياة ، ولا يحتاج إلى تقدير الضمير للربط لا غناء فاء السببية عنه في المشهور ، وقيل : يحتاج إلى تقدير به ـ أي بالماء ـ ليشعر بارتباطه ب (أَنْزَلَ) استقلالا كأحيا وفاء السببية لا تكفي في ذلك إذ يجوز أن يكون السبب مجموعهما ، وحديث أن المجرور إنما يحذف إن جر الموصول بمثله أكثري لا كلي ، و «من» بيانية على التقدير الأول على الصحيح ، والمراد (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) كل نوع من الدواب ، ومعنى ـ بثها ـ تكثيرها بالتوالد والتولد ، فالاستدلال بتكثير كل نوع مما يدب على الأرض وعدم انحصاره في البعض ، وقيل : تبعيضية لأن الله تعالى لم يبث إلا بعض الأفراد بالنسبة إلى ما في قدرته ، على أنه أثبت الزمخشري دواب في السماء أيضا في سورة «حمعسق» ، وفيه أن بث كل نوع مما يدب على الأرض لا ينافي كون بعض أفراده مقدرا ولا وجوده في السماء ، على أن مدلول التبعيضية كون شيء جزءا من مدخولها لا فردا منه ، وزائدة على التقدير الثاني لعدم تقدم المبين ، وعدم صحة التبعيض ، وهي زيادة في الإثبات لم يجوزها سوى الأخفش (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي تقليب الله تعالى لها جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا ، حارة. وباردة. وعاصفة. ولينة. وعقيما. ولواقح ، وتارة بالرحمة ومرة بالعذاب ، وقرأ حمزة والكسائي الريح على الإفراد وأريد به الجنس ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ الرياح ـ للرحمة والريح للعذاب ، وروي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا هبت ريح «قال : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» ولعله قصد بالأول ، والثاني قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) [الروم : ٤٦] وقوله تعالى : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) [الذاريات : ٤١] وعقب إحياء الأرض بالمطر ، وبث كل دابة فيها بتصريف الرياح لأن في ذلك تربية النبات وبقاء حياة الحيوانات التي تدب على وجه الأرض ولو أمسك الله تعالى الريح ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض كما نطق به بعض الآثار (وَالسَّحابِ) عطف على ما قبله ، وهو اسم جنس واحده سحابة سمي بذلك لانسحابه في الجو أو لجر الرياح له (الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) صفة ـ للسحاب ـ باعتبار لفظه ، وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع ك (سَحاباً ثِقالاً) [الأعراف : ٥٧] و «بين» ظرف لغو متعلق بالمسخر ومعنى تسخيره أنه لا ينزل ولا يزول مع أن الطبع يقتضي صعوده إن كان لطيفا وهبوطه إن كان كثيفا ، وقيل : الظرف مستقر وقع حالا من ضمير المسخر ومتعلقه محذوف أي المسخر للرياح حيث تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى ، وتوقيت تصريف الرياح بالسحاب لأنه كالمعلول للرياح كما يشير إليه قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨ ، فاطر : ٩] ولأن في جعله ختم المتعاطفات مراعاة في الجملة لما بدئ به منها لأنه أرضي سماوي فينتظم بدء الكلام وختمه ، وبما ذكرنا علم وجه الترتيب في الآية ، وقال بعض الفضلاء : لعل تأخير تصريف الرياح وتسخير السحاب في الذكر عن جريان الفلك وإنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجي للإشعار باستقلال كل من الأمور المعدودة في كونها آية ولو روعي الترتيب الخارجي لربما توهم كون المجموع المرتب بعضه على بعض آية واحدة ، ولا يخفى أنه يبعد هذا التوهم ظاهر قوله تعالى : (لَآياتٍ) اسم «إن» دخلته ـ اللام ـ لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كما وكيفا أي آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة المقتضية لاختصاص الإلهية به سبحانه (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يتفكرون ، فالعقل مجاز عن التفكر الذي هو ثمرته ، أخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال : «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» وفيها تعريض بجعل المشركين الذين اقترحوا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم آية تصدقه وتسجيل عليهم بسخافة العقول ، وإلا فمن تأمل في تلك الآيات وجد كلا منها مشتملا على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده تعالى ووحدانيته وسائر صفاته الكمالية الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى واستغنى عن سائرها ، ومجمل القول في ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه مستتبعا لآثار معينة ،