فإذا تطهرن بماء الإنابة ورجعن إلى الحضرة في طلب القربة فأتوهن من حيث أمركم الله أي عند ظهور شواهد الحق لزهوق باطل النفس واضمحلال هواها إن الله يحب التوابين عن أوصاف الوجود ويحب المتطهرين بنور المعرفة عن غبار الكائنات ، أو يحب التوابين من سؤالاتهم ويحب المتطهرين من إراداتهم نساؤكم وهي النفوس التي غدت لباسا لكم وغدوتم لباسا لهن موضع حرثكم للآخرة فأتوا حرثكم متى شئتم الحراثة لمعادكم وقدموا لأنفسكم ما ينفعها ويكمل نشأتها واتقوا الله من النظر إلى ما سواه واعلموا أنكم ملاقوه بالفناء فيه إذا اتقيتم وبشر المؤمنين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) أخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها نزلت في الصديق رضي الله تعالى عنه لما حلف أن لا ينفق على مسطح ابن خالته وكان من الفقراء المهاجرين لما وقع في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها ، وقال الكلبي : نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف على ختنه بشير بن النعمان أن لا يدخل عليه أبدا ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين امرأته بعد أن كان قد طلقها وأراد الرجوع إليها والصلح معها ، والعرضة فعلة بمعنى المفعول كالقبضة والغرفة وهي هنا من عرض الشيء من باب نصر أو ضرب جعله معترضا أو من عرضه للبيع عرضا من باب ضرب إذا قدمه لذلك ، ونصبه له والمعنى على الأول لا تجعلوا الله حاجزا لما حلفتم عليه وتركتموه من أنواع الخير فيكون المراد بالأيمان الأمور المحلوف عليها وعبر عنها بالأيمان لتعلقها بها أو لأن اليمين بمعنى الحلف تقول حلفت يمينا كما تقول حلفت حلفا فسمي المفعول بالمصدر كما في قوله صلىاللهعليهوسلم فيما أخرجه مسلم وغيره : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير» ، وقيل : على في الحديث زائدة لتضمن معنى الاستعلاء وقوله تعالى (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) عطف بيان لأيمانكم وهو في غير الأعلام كثير وفيها أكثر ، وقيل : بدل وضعف بأن المبدل منه لا يكون مقصودا بالنسبة بل تمهيد وتوطئة للبدل وهاهنا ليس كذلك واللام صلة عرضة ، وفيها معنى الاعتراض أو بتجعلوا والأول أولى وإن كان المال واحدا ، وجوز أن تكون الأيمان على حقيقتها واللام للتعليل وأن تبروا في تقدير لأن ويكون صلة للفعل أو لعرضة ، والمعنى لا تجعلوا الله تعالى : حاجزا لأجل حلفكم به عن البر والتقوى والإصلاح ، وعلى الثاني ولا تجعلوا الله نصبا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به في كل حق وباطل لأن في ذلك نوع جرأة على الله تعالى وهو التفسير المأثور عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، وبه قال الجبائي وأبو مسلم وروته الإمامية عن الأئمة الطاهرين ، ويكون أن تبروا علة للنهي على معنى أنهيكم عنه طلب بركم وتقواكم وإصلاحكم إذ الحلاف مجترئ على الله تعالى والمجترئ عليه بمعزل عن الاتصاف بتلك الصفات ويؤول إلى لا تكثروا الحلف بالله تعالى لتكونوا بارين متقين ويعتمد عليكم الناس فتصلحوا بينهم ، وتقدير الطلب ونحوه لازم إن كان (أَنْ تَبَرُّوا) في موضع النصب ليتحقق شرط حذف اللام وهو المقارنة لأن المقارنة للنهي ليس هو البر والتقوى والإصلاح بل طلبها وإن كان في موضع الجر بناء على أن حذف حرف الجر من أن وإن قياسي فليس بلازم وإنما قدروه لتوضيح المعنى والمراد به طلب الله تعالى لا طلب العبد ، وإن أريد ذلك كان علة للكف المستفاد من النهي كأنه قيل : كفوا أنفسكم من جعله سبحانه عرضة وطلب العبد صالح للكف (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم وأيمانكم (عَلِيمٌ) بأحوالكم ونياتكم فحافظوا على ما كلفتموه ، ومناسبة الآية لما قبلها أنه تعالى لما أمرهم بالتقوى نهاهم عن ابتذال اسمه المنافي لها أو نهاهم عن أن يكون اسمه العظيم حاجزا لها ومانعا منها (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ولغو اليمين عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ما سبق له اللسان ، وما في حكمه مما لم يقصد منه اليمين كقول العرب لا والله لا بالله لمجرد التأكيد ، وهو المروي عن عائشة وابن عمر وغيرهما في أكثر الروايات ، والمعنى لا يؤاخذكم أصلا بما لا قصد لكم فيه من الأيمان.