أماتهم عن ذواتهم بالتجلي الذاتي حتى فنوا فيه ثم أحياهم بالحياة الحقيقية العلمية أو به بالوجود الحقاني ـ والبقاء بعد الفناء ـ إن الله لذو فضل على سائر الناس بتهيئة أسباب إرشادهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) لمزيد غفلتهم عما يراد بهم (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) النفس والشيطان (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) هواجس نفوس المقاتلين في سبيله (عَلِيمٌ) بما في قلوبهم (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) ويبذل نفسه له بذلا خالصا عن الشركة (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) بظهور نعوت جماله وجلاله فيه ـ والله يقبض أرواح الموحدين ـ بقبضته الجبروتية في نور الأزلية ، ويبسط أسرار العارفين من قبضة الكبرياء وينشرها في مشاهدة ثناء الأبدية ، ويقال : القبض سره والبسط كشفه ، وقيل : القبض للمريدين والبسط للمرادين أو الأول للمشتاقين والثاني للعارفين ، والمشهور أن القبض والبسط حالتان بعد ترقي العبد عن حالة الخوف الرجاء فالقبض للعارف كالخوف للمستأمن ، والفرق بينهما أن الخوف والرجاء يتعلقان بأمر مستقبل مكروه أو محبوب ، والقبض والبسط بأمر حاضر في الوقت يغلب على قلب العارف من وارد غيبي وكان الأول من آثار الجلال والثاني من آثار الجمال.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الملأ من القوم وجوههم وأشرافهم وهو اسم للجماعة لا واحد من لفظه ، وأصل الباب الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد وإنما سمي الأشراف بذلك لأن هيبتهم تملأ الصدور أو لأنهم يتمالئون أي يتعاونون بما لا مزيد عليه ، ومن للتبعيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الملأ (مِنْ بَعْدِ مُوسى) أي من بعد وفاته عليهالسلام ، ومن للابتداء وهي متعلقة بما تعلق به ما قبله ولا يضر اتحاد الحرفين لفظا لاختلافهما معنى (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) قال أبو عبيدة : هو أشمويل بن حنة بن العاقر ـ وعليه الأكثر.
وعن السدي أنه شمعون وقال قتادة : هو يوشع بن نون لمكان من بعد من قبل وهي ظاهرة في الاتصال ، ورد بأن يوشع هذا فتى موسى عليهماالسلام وكان بينه وبين داود قرون كثيرة والاتصال غير لازم ، و (إِذْ) متعلقة بمضمر يستدعيه المقام أي (أَلَمْ تَرَ) قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) أي أقم لنا أميرا ، وأصل البعث إرسال المبعوث من المكان الذي هو فيه لكن يختلف باختلاف متعلقه يقال : بعث البعير من مبركه إذا أثاره وبعثته في السير إذا هيجته ، وبعث الله تعالى الميت إذا أحياه ، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال.
(نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) مجزوم بالأمر ، وقرئ بالرفع على أنه حال مقدرة أي ابعثه لنا مقدرين القتال أو مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل : فما ذا تفعلون مع الملك؟ فأجيب نقاتل ، وقرئ يقاتل ـ بالياء ـ مجزوما ومرفوعا على الجواب للأمر. والوصف ـ لملكا ـ وسبب طلبهم ذلك على ما في بعض الآثار أنه لما مات موسى خلفه يوشع ليقيم فيهم أمر الله تعالى ويحكم بالتوراة ثم خلفه كالب كذلك ثم حزقيل كذلك ثم إلياس كذلك ثم اليسع كذلك ، ثم ظهر لهم عدو وهم العمالقة قوم جالوت ـ وكانوا سكان بحر الروم ـ بين مصر وفلسطين وظهروا عليهم ، وغلبوا على كثير من بلادهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين ، وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولم يكن لهم نبي إذ ذاك يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد هلكوا إلا امرأة حبلى فولدت غلاما فسمته أشمويل ومعناه إسماعيل ، وقيل : شمعون فلما كبر سلمته التوراة وتعلمها في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم فلما كبر نبأه الله تعالى وأرسله إليهم فقالوا : إن كنت صادقا ـ فابعث لنا ملكا ـ الآية ، وكان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة أنبيائهم وكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي هو الذي يقيم أمره ويرشده ويشير عليه (قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) عسى من النواسخ وخبرها أن لا تقاتلوا وفصل بالشرط اعتناء به ، والمعنى هل قاربتم أن لا تقاتلوا كما أتوقعه منكم ، والمراد تقرير أن المتوقع كائن وتثبيته على ما قيل ، واعترض بأن عسيتم أن لا تقاتلوا