القيد قيد شبر فاندفع بهذا ما قاله ـ مولانا مفتي الديار الرومية ـ من أن هذا الجواب كما ترى ناشئ من كمال ثقتهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظن لقاء الله تعالى بالبعث ولا لتوقع ثوابه عز شأنه ، ولا ريب في أن ما ذكر في حيز الصلة ينبغي أن يكون مدارا للحكم الوارد على الموصول ولا أقل من أن يكون وصفا ملائما له فإن الملاءمة على ما جاد به هذا الذهن الكليل حصلت على أتم وجه وأكمله فلا حاجة في تحصيلها إلى ما ذكره رحمهالله تعالى بعد من إخراج اللفظ عن ظاهره الشائع استعماله فيه إلى يوم ملاقاته تعالى وحمل ملاقاته سبحانه على ملاقاة نصره تعالى وتأييده وجعل التعبير بذلك عنه مبالغة فإنه بمعزل عن استعمال ذلك في جميع الكتاب المجيد وليس هو من قبيل قوله تعالى : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) المراد منه المعية بالنصر والإحسان لأنه في سائر القرآن مألوف استعماله في مثل ذلك كما لا يخفى ، وهو يحتمل أن يكون من كلام الأعلين أتى به تكميلا للتشجيع وترغيبا بالصبر بالإشارة إلى ما فيه ، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام من جهته تعالى جيء به تقريرا لكلامهم ودعاء للسامعين إلى مثل حال هؤلاء المشير إليها مقالهم (وَلَمَّا بَرَزُوا) أي ظهر طالوت ومن معه وصاروا في براز من الأرض وهو ما انكشف منها واستوى (لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) أي لمحاربتهم وقتالهم (قالُوا) جميعا بعد أن قويت قلوب الضعفاء متضرعين إلى الله تعالى متبرءين من الحول والقوة.
(رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) أي صب ذلك علينا ووفقنا له ، والمراد به حبس النفس للقتال (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) أي هب لنا كمال القوة والرسوخ عند المقارعة بحيث لا تتزلزل ، وليس المراد بتثبيت الاقدام مجرد تقررها في حين واحد إذ ليس في ذلك كثير جدوى (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي أعنّا عليهم بقهرهم وهزمهم ، ووضع (الْكافِرِينَ) موضع الضمير العائد إلى ـ جالوت وجنوده ـ للإشعار بعلة النصر عليهم ، وفي هذا الدعاء من اللطافة وحسن الأسلوب والنكات ما لا يخفى ، أما أولا فلأن فيه التوسل بوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال ، وأما ثانيا فلأن فيه الإفراغ ، وهو يؤذن بالكثرة ، وفيه جعل الصبر بمنزلة الماء المنصب عليهم لثلج صدورهم وإغنائهم عن الماء الذي منعوا عنه ، وأما ثالثا فلأن فيه التعبير ـ بعلى ـ المشعر بجعل ذلك كالظرف وجعلهم كالمظروفين ، وأما رابعا فلأن فيه تنكير صبرا المفصح عن التفخيم ، وأما خامسا فلأن في الطلب الثاني وهو تثبيت الأقدام ما يرشح جعل الصبر بمنزلة الماء في الطلب الأول إذ مصاب الماء مزالق فيحتاج فيها إلى التثبيت وأما سادسا فلأن فيه حسن الترتيب حيث طلبوا أولا إفراغ الصبر على قلوبهم عند اللقاء وثانيا ثبات القدم والقوة على مقاومة العدوّ حيث إن الصبر قد يحصل لمن لا مقاومة له ، وثالثا العمدة والمقصود من المحاربة وهو النصرة على الخصم حيث إن الشجاعة بدون النصرة طريق عتبته عن النفع خارجة ، وقيل : إنما طلبوا أولا إفراغ الصبر لأنه ملاك الأمر ، وثانيا التثبيت لأنه متفرع عليه ، وثالثا النظر لأنه الغاية القصوى ، واعترض هذا بأنه يقتضي حينئذ التعبير بالفاء لأنها التي تفيد الترتيب ، وأجيب بأن الواو أبلغ لأنه عول في الترتيب على الذهن الذي هو أعدل شاهد كما ذكر السكاكي (فَهَزَمُوهُمْ) أي كسروهم وغلبوهم ، والفاء فيه فصيحة أي استجاب الله تعالى دعاءهم فصبروا وثبتوا ونصروا فهزموهم (بِإِذْنِ اللهِ) أي بإرادته انهزامهم ويؤول إلى نصره وتأييده ، والباء إما للاستعانة والسببية وإما للمصاحبة (وَقَتَلَ داوُدُ) هو ابن إيشا (جالُوتَ) أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال : لما برز طالوت لجالوت قال جالوت : أبرزوا إليّ من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فأتي بداود إلى طالوت فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته وأن يحكمه في ماله فألبسه طالوت سلاحا فكره داود أن يقاتله بسلاح وقال : إن الله تعالى إن لم ينصرني عليه لم يغن السلاح شيئا فخرج إليه بالمقلاع ومخلاة فيها أحجار ثم برز له فقال له جالوت : أنت تقاتلني؟ قال داود : نعم قال : ويلك ما خرجت إلا