عالمنا ومشابهة بعضنا بعضا وشبيه الشيء ميال إليه قريب اتباعه له *ولكل شيء آفة من جنسه* (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً) من مال التصرف إذ لا يتصرف إلا بالواسطة قال : إن الله تعالى اختاره عليكم لبساطته وتركبكم وزاده سعة في العلم الإلهي وقوة في الذات النوراني ، والله يؤتي ملكه من يشاء فيدبره بإذنه ، والله واسع لسعة الإطلاق ، عليم بالحكم التي تقتضي الظهور والتجلي بمظاهر الأسماء ، وقال لهم نبيهم إن آية ملكه عليكم وخلافته من قبل الرب فيكم أن يأتيكم تابوت الصدر فيه سكينة أي طمأنينة من ربكم وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس بالله تعالى ، وبقية مما ترك آل موسى القلب وآل هارون السر ، وهي من التوحيد وعصا لا إله إلا الله التي تلقف عظيم سحر صفات النفس وطست تجلي الأنوار الذي يغسل به قلوب الأنبياء وشيء من توراة الإلهامات تحمله ملائكة الاستعدادات لدى طالوت الروح فعند ذلك تسلم له الخلافة وينقاد له جميع أسباط صفات الإنسان ، فلما فصل طالوت وجنوده من وزير العقل ومشير القلب ومدبر الافهام ونظام الحواس (قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) الطبيعة الجسمانية المترع بمياه الشهوات فمن شرب منه وكرع مفرطا في الري فليس من أشياعي الذين هم من عالم الروحانيات وأهل مكاشفات الصفات ومن لم يطعمه ويذقه فإنه من سكان حظائر القدس وحضار جلوة عرائس منصة الأنس إلا من اغترف غرفة بيده وقنع من ذلك بقدر الضرورة ولاحتياج من غير حرض وانهماك فشربوا منه وكرعوا وانهمكوا فيه إلا قليلا منهم وهم المتنزهون عن الأقذار الطبيعية المتقدسون عن ملابسها المتجردون عن غواشيها وقليل ما هم فلما جاوز طالوت الروح نهر الطبيعة وعبره هو والذين آمنوا من القلب والعقل والملك وغيرهم من أتباع الروح معه ، قال بعضهم وهم الضعفاء الذين لم يصلوا إلى مقام التمكين لا طاقة لنا اليوم بمحاربة جالوت النفس وأعوانه لعراقتهم بالخدع والدسائس قال الذين يتيقنون أنهم ملاقو الله بالرجوع إليه : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة وقهرتها حتى أذهبت كثرتها بإذن الله وتيسيره ، والله مع الصابرين بالتجلي الخاص لهم ، فلما برزوا لحرب جالوت وجنوده تبرءوا من الحول والقوة وقالوا : ربنا أفرغ علينا صبرا واستقامة ، وثبت أقدامنا في ميادين الجهاد حتى لا نرجع القهقرى من بعد ؛ وانصرنا على أعدائنا الذين ستروا الحق ، وهم النفس الأمارة وصفاتها فهزموهم وكسروهم بإذن الله وقتل داود القلب جالوت النفس ، ووصلوا كلهم إلى مقام التمكين فلا يخشون الرجعة والردة ، وكان قد رماه بحجر التسليم في مقلاع الرضا بيد ترك الالتفات إلى السوي فأصاب ذلك دماغ هواه فخر صريعا فآتى الله تعالى داود ملك الخلافة وحكمة الإلهامات وعلمه مما يشاء من صنعة لبوس الحروب ومنطق طيور الواردات وتسبيح جبال الأبدان ، ولو لا دفع الله الناس بعضهم كأرباب الطلب ببعض كالمشايخ الواصلين لفسدت أرض استعداداتهم المخلوقة في أحسن تقويم عند استيلاء جالوت النفس ، ولكن الله ذو فضل على العالمين ، ومن فضله تحريك سلسلة طلب الطالبين وإلهام أسرارهم إرادة المشايخ الكاملين وتوفيقهم للتمسك بذيل تربيتهم والتشبث بأهداب سيرتهم فسبحانه من جواد لا يبخل ومتفضل على من سأل ومن لم يسأل.
تم طبع الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث أوله (تِلْكَ الرُّسُلُ)